خطبة الجمعة من صفحة نفحات من المنبر بعنوان التبرع بالدم صدقة جارية
خطبة بعنوان: "التبرع بالدم صدقة جارية"
بمناسبة حملة التبرع بالدم التي ستجرى بالفضاء الخارجي لمسجد الإمام البخاري يوم الخميس 20 ربيع الأخير 1440هـ 27 / 12 / 2018م.
وهي بالمناسَبة، لعلها مناسِبة لمن أحب أن يستأنس بها، أو يختصرها، أو يقتصر على بعضها، أو يوظفها بعد أن ينظفها، فينقحها من أخطائي ليلقحها بأفكاره والرجاء منه أمران:
1) الدعاء لي -بعد الإخلاص- عن ظهر الغيب.
2) غض البصر -بعد الإصلاح- عما فيها من العيب.
تاريخ إلقائها في مسجد الإمام البخاري
14 ربيع الأخير 1440هـ 21 / 12 / 2018م.
عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله الذي أنزل علينا كتابا كالشمس وضحاها، وأرسل إلينا رسولا كالقمر إذا تلاها، فمن اقتدى بهما عاش في ضوء النهار إذا جلاها، ومن أعرض عنهما تخبط في ظلمة الليل إذا يغشاها، وأشهد أن لا إله إلا الله رفع السماء وبَنَاهَا، وَبسط الأرْض وطَحَاهَا، وخلق النَفْس وسَوَّاهَا، فأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قد أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وقد خَابَ مَن دَسَّاهَا، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أخبره ربه أنه أهلك ثمودا بطغواها، وأنه سبحانه وتعالى لا يخاف عقباها، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه من أمته أولاها وأخراها.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
إن الله عز وجل خلق الناس متفاوتين في المواهب والملكات، متباينين في الجهود والطاقات؛ فمنهم قوي وضعيف، وغني وفقير، وصحيح ومريض، وقادر وعاجز؛ والله عز وجل أمر بتقريب هذا التفاوت عن طريق التراحم والتكافل والتعاون، وبأنواع من الصدقات والتبرعات، وأجر الإحسان عند الله عظيم، وثوابه كبير وجسيم، يكفي أن نعلم أن الصدقة برهان، وأن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
والفقراء أنواع، والصدقة أيضا تتنوع بتنوع هؤلاء الفقراء؛ فمن بيننا فقراء هم أغنياء المال والدنيا، قد يملكون أموالا طائلة وأملاكا مترامية، ورغم ذلك فهم فقراء، يحتاجون منا لمادة لا تستورد من الخارج، ولا تصنع في المصانع، يحتاجون لمادة نملكها لكن لا نصنعها بأيدينا، نحملها دائما معنا، لا تباع في الدكاكين، ولا تعرض في الأسواق، لكننا لا نعيش بدونها، الصدقة بها سهل وميسر، وأجر التبرع بها لا يقدر بثمن، يملك الإنسان هذه المادة ولو لم يملك في الدنيا فلسا واحدا.
أتدرون ما هي هذه المادة؟ إنها الدماء التي تجري في عروقنا، إنها قطرات الدم التي تنساب عبر أنابيب الأعصاب في أجسامنا، إنها الدورة الدموية التي تدور في أعضائنا تبعا لدقات قلوبنا، إنها التبرع بالدم لمن كان في حاجة إليه من مرضى هم فقراء الدماء، يعانون من مرض فقر الدم، وقد امتلأت بهم المراكز الصحية، وغصت بهم الأسرة البيضاء في المستشفيات، وأغلبهم ثلاثة أنواع:
منهم ضحايا حوادث السير التي تقصف كل يوم مئات من الأجسام والأشباح، وتعصف كل يوم بمئات من النفوس والأرواح، وتنسف كل يوم مئات اللترات من الدماء، وأنتم تعلمون أن بلادنا هو الذي ضرب الرقم القياسي فيما يسمى بحرب الطرق وحوادث السير، فكم من أرواح أزهقت بها؟ وكم من دماء أهرقت بها؟
ومنهم النساء الحوامل أثناء الولادة، فقد تصاب المرأة بعد وضع حملها بنزيف دموي حاد فتحتاج لمؤمن يعوضها، ويفرج كربها.
ومنهم مرضى سرطان الدم؛ لأنه داء يفتك بالكريات الحمراء في الدم.
أيها الإخوة المؤمنون؛ إن الأطباء المكلفين بمراكز تحاقن الدم بالمستشفيات يستصرخون؛ بل إنهم يدقون ناقوس الخطر، فكم من أرواح يراقبونها حتى تغادر أجسادها، ولا يملكون لها غير الترقب والانتظار لأنها لم تجد مؤمنا يسعفها؟ وثقافة التبرع بالدم لا نحسنها ولا نحس بها، لقد غاب الإحساس بهذا النوع من الإحسان في مجتمعنا، وكيف نبخل بمادة الله تبرع بها علينا؟ أفلا أخاف أن يمنع الله عني فضله حين بخلت بفضل ما لم تعمل يداي؟ كيف أبخل بمادة لو تصدقت بها سيخلفها الله تعالى في جسمي في ظرف ساعات وفي أجري في ظرف دقائق؟ والله تعالى يقول: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}.
إن التبرع بالدم إحسان يدخل ضمن قواعد التبرعات العامة:
• منها أن التبرع بالدم عيادة المريض وعيادة المريض أمر مرغب فيه قالﷺ: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ قَالَ جَنَاهَا» رواه مسلم، وقالﷺ: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلا» رواه الترمذي، وعيادة المريض لا تعني مجرد الزيارة فقط؛ بل هي الزيارة والزيادة، {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} والزيادة هي مساعدة المريض في شيء هو في حاجة إليه.
• ومنها أن التبرع بالدم صدقة جارية ما دام المريض يعيش بها، قال الرسولﷺ: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» رواه الترمذي وصححه، وكيف يكون شعورك وأنت ترى صدقتك الجارية من دمائك تجري بجسد غيرك؟ كيف تجد إحساسك وقد أنقدت إنسانا من الموت بدمائك التي تجري في عروقك؟
• ومنها أن التبرع بالدم قضاء للحاجات وتفريج للكربات روى البخاري وغيره أن النبيﷺ قال: «وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وكيف يكون شعورك وقد قضيت حاجة مسلم من دمائك، وفرجت بها كربة غيرك، وخففت بها معاناة أخيك؟
• ومنها أن التبرع بالدم تكافل إنساني يجعلك تنتسب للنبيﷺ الذي قال عن الأشعريين من الصحابة بسب ذلك: «هم مني وأنا منهم». رواه البخاري، وكيف يكون شعورك وأنت تعلم أنك نلت بدمك الانتساب للحبيب المصطفىﷺ؟ وهل يتمنى المسلم من هذه الدنيا غير ذلك؟
أيها الاخوة المؤمنون؛ إن التبرع بالدم ليست منفعة للمريض فقط؛ بل يكون أيضا منفعة للمتبرع نفسه، فهي نفع وانتفاع، لأن التبرع بالدم يجلب لصاحبه تحاليل إذ هو أراد إجراءها سوف يدفع فيها غاليا، هي تقريبا 10 تحاليل طبية، منها مرض الكبد (بي، وسي) ومرض السيدا، والمتبرع بتبرعه بشيء من دمه يأخذ نتائج هذه التحاليل مجانا، فقد يكتشف بها الإنسان مرضا خطيرا بدأ ينتشر بجسمه وهو لا يدري، فيبادر بالمعالجة قبل استفحال أمره.
والآن قد يتساءل البعض: كيف أتبرع بدمي؟ وأين؟ ومتى؟ ما علينا إلا أن نتصل بمراكز تحاقن الدم لنفيد ونستفيد، لنفيد بالإسعاف مرضانا، ولنستفيد في الدنيا حقيقة ما لدنا، وفي الآخرة أجر ما قدمنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية في موضوع الهرْج وهو الفتنة التي يكثر فيها قتل الأبرياء
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ إذا كان التبرع بالدماء أجره عند الله عظيم؛ فإن سفك هذه الدماء جرمه عند الله جسيم، وسفك الدماء هو القتل، وقد استحر وانتشر في هذا العالم اليوم في كل مكان، وانتشاره من علامات الساعة؛ يقول الرسولﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يُقْبَضَ العلمُ، وتكثرَ الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثرَ الهَرْجُ. قالوا: وما الهَرْجُ يا رسول الله؟ قال: القتل القتل»؛ وقد تقارب الزمان في هذا العصر بوسائل الإعلام والاتصال والمواصلات...
ولا يجوز في الإسلام قتل حيوان بدون سبب مقبول ولا منفعة مشروعة؛ فقد جاء في الحديث النبوي الشريف أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، وفي حديث آخر أن عصفور عج (أي رفع صوته بالشكوى) إلى الله يقول: «إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة»؛ هذه هرة وهذا عصفور؛ فكيف بقتل إنسان بريئ دون وجه حق؟ والله تعالى يقول: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}؛ فقتل إنسان بريء في الإسلام هو بمنزلة قتل الناس جميعا، وقتل النفس ليس تشددا ولا تنطعا في الإسلام؛ بل هو ليس من الإسلام أصلا، والإسلام من هذه الجريمة النكراء براء، ومثلها هذه الدماء التي تسيل سنوات في كثير من بلدان المسلمين، دماء الأبرياء من النساء والأطفال الرضع، ومن الرجال العُزَّل والشيوخ الركع؛ تارة على يد طغاة الصهيونيين، وتارة على يد جناة الصليبيين، وتارة على يد عتاة الملحدين، وتارة على يد غلاة الصفويين الشيعة، وتارة على يد بغاة التنطع والتشدد، تعددت الأسماء وعدو الإسلام واحد؛ فمن حرض على القتل ومن قتل هما في الجريمة سواء؛ بل قد يكون القاتل ضحية لفكر المحرض، وهذه جماعة في عهد رسول اللهﷺ أفتوا لرجل مجروح في رأسه بوجوب الغسل عليه فاغتسل فمات، فقالﷺ: «قتلوه قتلهم الله...»؛ قتلوه بماذا؟ إنهم قتلوه بالفتوى والتوجيه والتحريض، ولا بد من الوقوف فكريا وسلوكيا ضد هذا الفكر المتشدد أيا كان نوعه ومصدره؛ فهو مكان خصب لتفريخ وتفخيخ الهرْج، والهرج الفتنة التي يكثر فيها قتل الأبرياء...
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ
نقلا عن صفحة الشيخ عبد الله بن طاهر
نفحات من المنبر عبدالله بنطاهر
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
ردحذف