خطبة بعنوان: "لا يعترف بنعمة الاستقلال من لا يعرف نقمة الاستعمار"

بمناسبة ذكرى الاستقلال
هذه خطبة لعلها تكون مناسبة لمن أحب أن يستأنس بها، أو يختصرها، أو يقتصر على بعضها، أو يوظفها بعد أن ينظفها، فينقحها من أخطائي ليلقحها بأفكاره بشرطين:
1) الدعاء لي -بعد الإخلاص- عن ظهر الغيب.
(2 غض البصر -بعد الإصلاح- عما فيها من العيب.
ودعواتكم رأس مالي ورصيد اعتمادي
تاريخ إلقائها في مسجد الإمام البخاري: 8 ربيع الأول 1440هـ 16 / 11 / 2018م.
عبد الله بنطاهر التناني السوسي
لبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه 
الحمد لله الذي أنعم على الشعوب بنعمة الاستقلال، فأزاحوا به عن أنفسهم نقمة الاستعمار والاستغلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدس عن الأشباه والأمثال، فتفرد بكل جمال وكمال، وتفضل على عباده بجزيل النوال، له الحمد في الأولى والآخرة والحال والمآل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الكريم الأخلاق والشريف الخصال، الذي حارب بحرية الحق والإيمان عبوديةَ الكفر والضلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الجزاء على الأعمال.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي عاش الجاهلية بعنادها وجبروتها وشركها وظلامها؛ كما عاش أيضا الشريعة الإسلامية بسماحتها ويسرها ونورها وهديها: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، إي والله يا خليفة رسول اللهﷺ؛ لا يعرف الإسلام إلا من عرف الجاهلية؛ لأن الشيء يعرف بضده كما يقال، والعروة هي الحلقة الذي يتمسك بها الناس من أجل النجاة، ومنها قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}، وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، ونحن اليوم نقول: "إنما تنقض عرى الاستقلال عروة عروة، إذا نشأ في الاستقلال من لا يعرف الاستعمار"؛ 
فالاستعمار في اللغة هو: عمارة الأرض بالخير، ومنه قول الله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.
أما الاستعمار في الاصطلاح العالمي اليوم فهو مرادف للقتل والتشريد والنهب والسرقة والاستغلال واغتصاب النساء وتعذيب الرجال بالأعمال الشاقة والسجون والمنافي، واختصارا فالاستعمار اصطلاحا هو: ارتكاب كل الجرائم المحرمة دينيا ودوليا، ولهذا سماه البعض الاستخراب؛ ومن الغريب أن يتساهل بعض المستغربين منا فيتساءل: هل الاستعمار نقمة؟ 
وفي الحقيقة لا يقول بذلك إلا من لا يعترف بنعمة الاستقلال، ولا يعترف بنعمة الاستقلال من لا يعرف نقمة الاستعمار؛ فالاستعمار -مهما فعل- لا يعدو أن يكون نقمة؛ بل أكبر نقمة على الأمم والشعوب، لا يرضى به إلا من ألف المذلة والمهانة، ولا يقبل به إلا من لا قيمة عنده للحرية والشرف والديانة، ونقمة الاستعمار تتجلى في أمرين يشكلان أساس أهداف الاستعمار في بلاد المسلمين هما: سرقة ثروات البلاد وهي النقمة المادية، وإفساد أخلاق الدين وهو النقمة المعنوية، وهي نفس الأهداف التي شُنَّتْ من أجلها الحروبُ الصليبية على بلاد المسلمين، ولهذا فإن الاستعمار ليس إلا حلقة من حلقات هذه الحروب الصليبية المستمرة ضد الأمة إلى اليوم، وقد قالها بكل وضوح قائد الجيوش الفرنسية الجنرال "هنري غورو" حينما احتل دمشق (عام1338ه1920م)، فوقف على قبر القائد الكردي المسلم صلاح الدين الأيوبي فقال: "ها نحن عدنا مرة أخرى يا صلاح الدين" وصلاح الدين هو الذي هزم الصليبيين، إبان الحروب الصليبية وخصوصا في معركة حطين، فحرر القدس في فلسطين، سنة (583هـ1187 م).
أما الأمر الأول: سرقة ثروات البلاد فقد تجلى ذلك في الاستيلاء علي الطاقات البشرية والثروات الطبيعية؛ بدأ من اليد العاملة المجانية بدون مقابل، إلى المعادن النفيسة، إلى المنتوجات الفلاحية، إلى الصيد البحري، حتى أشجار الغابات تم قطعها واستئصالها، ليشحن كل ذلك إلى بلاده، تاركا وراءه أصحاب البلاد معرضين للقفر والجوع والأمراض؛ فقد قتل الاستعمار وشرد ونهب ويَتَّم ورمَّل واغتصب النساء وعذب الرجال بالسياط والأعمال الشاقة والسجون والمنافي، وفعل كل الجرائم المحرمة دينيا ودوليا من أجل نقل ثروات الأوطان إلى بلده، لتصير قُوتَه فيستمتعَ بها، وليصنع منها قُوَّتَه فيسيطر بها.
وخصوصا إبان الحرب العالمية الثانية ما بين (1938 و1945م)، وبالأخص منها السنوات التي استعمر فيها هتلير النازي بدوره أغلب الدول المستعمِرة في أوروبا ومنها فرنسا؛ حيث ذاقت فرنسا مرارة الاستعمار الذي كانت تُذِيقه الشعوب المسلمة، فلم يبق لها وهي مسعمَرة من طرف الألمان إلا مستعمَراتها، فتأخذ منها كل شيء مفيد لتحارب به النازيين، ولتحرر به بلدانها من سيطرة الألمان، وهذه هي نقمة الاستعمار المادية التي عانى منها آباؤنا وأجدادنا.
أما الأمر الثاني: إفساد المستعمر لأخلاق الدين؛ فقد تجلى في محاربة كل ما له علاقة بالإسلام، فالاستعمار لا يكفيه السيطرة على خيرات البلدان الإسلامية المادية؛ بل أراد إبعاد المسلمين عن دينهم الحنيف، وقد عبر عن ذلك بجلاء ووضوح وزير المستعمرات البريطاني في القرن 19 وليام غلادستون(ت1898م)،حين وقف في مجلس العموم البريطاني فقال قولته المشهورة: "إننا لا نستطيع القضاء على الإسلام والمسلمين إلا بعد القضاء على ثلاثة أشياء: صلاة الجمعة وخطبتها، والكعبة المشرفة والتوجه إليها في الصلاة والحج، وهذا الكتاب -وهو يحمل في يده مصحفا- القرآن وتلاوته صباح مساء"، وقد سلك المستعمر لإفساد الدين مسالك شتى منها: 
1) إفساد الأسرة؛ ولتحقيق ذلك سلط أضواءه الكاشفة الغاشمة على المرأة وحقوقها، فخلف من بني جلدتنا من يسمي نفسه من أنصار المرأة، وهم في الحقيقة من أعدائها، مدعيا أنه يريد تحريرها وإنما أراد التغرير بها لتتمرد ففعلت؛ فتبرجت بكيفية يغرى الذئاب الجائعة من الرجال بالفتنة بها، والإيقاع بشرفها ونسف عرضها، فتغزو القلوب بجمالها وفتنتها، في الوقت الذي يغزو الفساد عرضها وشرفها؛ وما كانت جداتُ آبائنا ولا جداتُنا وأمهاتُنا قبل الاستعمار يعرفن هذا، أو حتى يخطر ببالهن.
2) إفساد التعليم حيث فصله عن الدين، وقد كان قبل ذلك يتكون الطبيب وهو فقيه، مثل العائلات العلمية المشتهرة بالطب في تاريخ الإسلام؛ ابن رشد القرطبي الجد والحفيد، وابن زهر الإشبيلي الجد والحفيد، والإمام المازري وغيرهم من الأطباء الفقهاء، وكذلك يتخرج القاضي فقيها ومحدثا بل لا يكون القاضي قاضيا إلا إذا كان فقيها، فلما جاء الاستعمار بدأ يتخرج عندنا الأطباء وبعضهم أميون في الدين، والقضاة وبعضهم لم يشموا رائحة الفقه؛ بل وأساتذة في التربية الإسلامية وبعضهم لا يستطيع أن يفرق بين نصوص القرآن والحديث، وهذا كله نتاج مخططات هذا الاستعمار التي استمرت واستُثْمِرَت مع الأسف حتى في الاستقلال حيث زرع وما زلنا نحصُد نقمة ما زرع إلى اليوم.
3) تهميش العلماء والفقهاء؛ حيث لم يترك لهم أي مجال اجتماعي يتحركون فيه، ولم يبق لهم إلا المساجد، فهمشهم الاستعمار فيها كما همش في بلاده الأحبار والرهبان في أديرتهم وكنائسهم.
وحتى ينجح الاستعمار في خطته تلك في بلدنا المغرب بادر إلى التفريق بين العرش العلوي الشريف، والشعب المغربي المنيف، لكي يستفرد بكل واحد منهما على حدة؛ فقد كان له في بداية الأمر ما أراد، حتى جاء جلالة المغفور محمد الخامس يقود العرش، ليلتحم بالشعب وفي قيادته العلماء، فحارب هذا الاستعمار الصليبي الذي يستنـزف خيرات البلاد ويذل العباد، ويشوه كل ما له علاقة بهوية الإسلام، حتى أدت به وقاحته إلى أن يمد يده الأثيمة لرمز البلاد محمد الخامس طيب الله ثراه، فنفاه إلى منفاه السحيق، ظنا منه أن الجو سيخلو له وأن الاستغلال سيحلو له، ناسيا أن كل مغربي يحمل في قلبه شخصية قائده، إذا به يصطدم بمئات الآلاف من شخصيات محمد الخامس في فكره وجهاده ودعوته، فقام المقاومة بما يسمى اليوم بحرب العصابات ضد أفراد الاستعمار والخونة، فقدموا من أجل ذلك آلاف الشهداء، ولم تثن عزائمهم السجون ولا المنافي السحيقة؛ كل ذلك في سبيل الدفاع عن المقدسات الدينية والوطنية، وما كانت أم واحد من هؤلاء المقاومين يومها من المتبرجات السافرات، أو عارضة الأزياء في الشوارع والساحات، وما كان أحدهم يتحرك ضد المستعمر يومها إلا بتوجيه من المعلمين والعلماء، وعلى رأسهم جلالة المغفور محمد الخامس، وبمعيته وارث سره جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراهما وأكرم مثواهما؛ الشيء الذي أرق الاستعمار وأقض مضجعه، فيرتحل من البلاد وهو يجر أذيال الخيبة والندم، فيرجع محمد الخامس طيب الله ثراه إلى البلاد تاليا قوله تعالى: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} ومرددا: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، فنال المغرب الاستقلال، وذلك في اليوم الثامن عشر من مثل هذا الشهر. 
ولذلك فإن بلادنا يحتفل في هذه الأيام بذكرى الثالثة والستين لهذه المناسبة الوطنية العزيزة، ذكرى الاستقلال الذي جعل أهداف الاستعمار تنقلب عليه كما ينقلب السحر على صاحبه؛ بحيث انتشر الإسلام بمساجده في بلدانهم بكيفية ما كانت تُعْرَف عندهم قبل استعمارهم بلاد المسلمين مصداقا لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} والاستقلال هو رمز مغلوبيتهم لو أحسن المسلمون توظيفه واستغلاله.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فأيها الإخوة المؤمنون؛ إن الاحتفال بهذه الذكرى هو مناسبة لتقوية أواصر التلاحم القائم بين العرش والشعب، ومناسبة لأخذ العبر والدروس من الماضي للأجل العمل في الحاضر وبناء المستقبل، وها هو جلالة الملك محمد السادس حفظه الله يقود قطار الجهاد الأكبر جهاد التنمية وبناء الوطن بحكمته وحنكته، في مساعيه الحميدة وجولاته التنموية، يواصل بعزيمة الأبطال، مسيرة الإنجازات الإنمائية والإيمانية من أجل رفاهية شعبه وراحة رعيته، تجسيدا لآمال المواطنين وأمانيهم، للسير قدما بهذا البلد نحو التقدم والرقي والازدهار، في ظل الثوابت والمقدسات، وفي ظل المثل العليا والقيم الخالدة، فيساعد الفقراء، وينعش القرى، فينهض بهذا البلد في مختلف الميادين. 
ألا فاتقوا الله عباد الله؛ وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة بعنوان تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال

خطبة الجمعة من صفحة نفحات من المنبر بعنوان التبرع بالدم صدقة جارية