خطبة بعنوان: الزكاة طهارة!؟




وهي بالمناسَبة، لعلها مناسِبة لمن أحب أن يستأنس بها، أو يختصرها، أو يقتصر على بعضها، أو يوظفها بعد أن ينظفها، فينقحها من أخطائي ليلقحها بأفكاره والرجاء منه أمران:
1) الدعاء لي -بعد الإخلاص- عن ظهر الغيب.
2) غض البصر -بعد الإصلاح- عما فيها من العيب.
تاريخ إلقائها في مسجد الإمام البخاري: 18 محرم 1440هـ 28 / 9 / 2018م.
عبد الله بنطاهر التناني السوسي
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. 
الحمد لله الذي جعل الزكاة ركنا من أركان الإسلام، وأوجبها من مال الأغنياء طهرة لهم من البخل والشح والآثام، ومواساة لذوي الحاجة والأرامل والأيتام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، جعل الإنفاق في سبيل الله تزكية للنفوس وتخفيفا للآلام، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد الأنام، أفضل من أنفق في سبيل الله فنال مراتب الجود والإكرام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، وعل التابعين لهم بإحسان إلى نهاية الأيام والأعوام.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته، فإن تقوى الله حصن حصين، وملجأ أمين، (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).
إن كثير من الناس في هذه الأيام يخرجون زكاة أموالهم، والزكاة هي ركن من أركان الإسلام، سماها القرآن الكريم طهارة، فقال سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلواتك سكن لهم، والله سميع عليم".
وهل تدرون -يا عباد الله- كيف كانت الزكاة طهارة؟ وهل تدرون كيف تتحول هذه النسبة من مال المسلم إلى وسيلة تنظيف وتطهير؟ وهل تدرون ما معنى طهورية الزكاة؟ 
فذلكم هو موضوع خطبة اليوم إن شاء الله؛
أيها الاخوة المؤمنون؛ إذا كانت الطهارة هي إزالة الأوساخ، فإن هذه الأوساخ على نوعين: 
النوع الأول: أوساخ مادية تلوث المكان والأثواب والأبدان، فهذه قد شرع الإسلام لإزالتها أمورا: منها الوضوء والغسل والنظافة، والصلاة -وهي قرينة الزكاة- لا تصح إلا بطهارة الحدث وهي الوضوء والغسل، وطهارة الخبث وهي إزالة النجاسة عن الثوب والبدن والمكان. 
النوع الثاني: أوساخ معنوية تلوث الإيمان، وتنجس المعاملات، وتوسخ الأخلاق، وتطبع القلوب، وتكدر النفوس. 
والزكاة في الإسلام ليست مجرد دريهمات تدفع للفقراء وكفى؛ بل إنها طهارة أيما طهارة! فهي طهارة القلوب وتزكية النفوس، تطهر المجتمع من أمراض الأغنياء وأوساخ الأموال، كما تطهر الفقراء من أمراض الفقر والحرمان.
أتدرون ما هي أمراض الأغنياء وأوساخ المال؟ إنها الكبر والإعجاب بالنفس، إنها الأنانية وحب الذات والدورانُ على النفس، إنها البخل والشح والشره والطمع، وكلها أمراض خطيرة، متلازمة ومترابطة، لا يكاد الإنسان يستسلم لواحدة منها إلا وجاءت البقية من بعدها تباعا؛ لأن الإنسان عندما يحس بأن جيبه قد امتلأ، وأن حسابه في البنوك تتكدس، يطغى ويتجبر، فتعجبه نفسه فيتكبر، فيحتقر الفقراء، ويستهزئ بالمساكين، فلا يكاد ينظر إلا إلى نفسه، ولا يستمع إلا لنفسه، فيقول كما قال قارون: (إنما أوتيته على علم عندي)؛ فيكون كلُّ همه الحرصَ على المال، فيزداد مقياس البخل في نفسه، فيتحول إلى شح مطاع، والرسولﷺ يقول: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب الأمر بنفسه» والله تعالى يقول: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ويقول سبحانه: (وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى)، ثم يتحول البخل في نفسه وطبعه، من الشح المطاع، إلى الشره والطمع، فيكون كالذي يأكل ولا يشبع، روى الطبراني عن عوف بن مالك «أن رسول اللهﷺ أمرهم أن يتعوذوا بالله من ثلاث: من طمع حيث لا مطمع، ومن طمع يرد إلى طبع، ومن طمع إلى غير مطمع»(1)؛ فإذا كان طماعا بطبعه، فلا يبالي بعد ذلك من أين أخذ المال، من الحلال أم من الحرام، فيصبح الحلال لديه هو ما حل بيده، وسجله في حسابه، فتراه يتمرد على كل شرع ويتنكر لكل قانون، وهنا مكمن الداء، ورأس الأدواء.
إنه -والله- مسلسل خطير، يؤدي بالإنسان من الاستغناء إلى الطغيان، عبر حلقات الكبر والإعجاب بالنفس، إلى البخل والشح، إلى الشره والطمع، إلى الظلم والطغيان، والله تعالى يقول: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى). 
إنها أمراض -والله- ما ضاع شرع الله إلا بها، وما ضاعت حقوق الإنسان إلا بها، وما ضاعت الثقة والأمانة إلا بها، وما ماتت الضمائر الحية إلا بها، وما سقطنا في متاهات الديون الربوية إلا بها، وما سادت الرشوة في معاملاتنا إلا بها، وما انتشر الغش في أسواقنا إلا بها، وما انتشر الظلم الاجتماعي إلا بها، وما عانت الإنسانية من الحروب والتقتيل والتشريد إلا بها. 
فبالشره والطمع ضاعت القدس وفلسطين، وبالأنانية والعنصرية شرد المسلمون في العالم اليوم، والرسولﷺ يحذرنا من هذا مند أربعة عشر وهو يربط بين الشح والقتل فيقول: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقَى الشح، ويكثر الهرج. قيل: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل القتل» رواه البخاري. 
فما أصدق حديث رسول الله ! ها هو الواقع يشهد: لقد تقارب الزمان، فأصبح العالم بوسائل الإعلام قرية واحدة؛ بل قد أصبح اليوم بالانترنيت بيتا واحدا، والعمل الصالح قد تناقص، فساد العالـمَ الشحُّ المطاعٌ والشرهٌ والطمعٌ، فَعَوْلَـمَه على حساب الفقراء، فيٌصَنَّف كل شيء حسب المصالح والأهواء، حيث لا حلال ولا حرام، ولا حدود ولا قيود، يأكل القوي الضعيف، وأصبح العالم المتحضر لا يرحم إلا الأقوياء، وأصبح العالم يسير اليوم تحت مظلة قانون الغاب، فكان نتاجٌ كل ذلك قتلَ الإنسان لأخيه الإنسان، واستنزاف الأقوياء ثروات الضعفاء، وهذا هو الطغيان بعينه. 
سموك يا عصر الظلام سـفاهـة /// عصر الضياء وأنت شر الأعصر
وتقدمت فيك الحضارة حسب ما /// قـالوا فـيا وحشية المتحضـر
وتنورت فيك العقـول وإنـما /// يقع الخـراب بـزلة الـمتنور
فالعلـم قد يأتـي بكـل بليــــة /// ويصير نحـو الموت بالمستبصـر
فالعلم بغير التقوى بلية كبرى، والله تعالى يقول: (واتقوا الله ويعلمكم الله).
تلكم -يا عباد الله- هي أمراض الأغنياء، أما أمراض الفقير وأوساخ الحرمان، فهي، بغض الأغنياء، وحسدهم، والحقد عليهم، والعمل على إيذائهم، والسطو على ممتلكاتهم بالمكر والاختلاس والخديعة؛ لأنهم في نظره يتمتعون وهو محروم، ويأكلون وهو جائع، ويلبسون وهو حاف عار، ويسكنون الفلل البهية والبروج المشيدة وهو متشرد في دور الصفيح؛ فبسبب أمراض الفقر والحرمان، وأوساخ العوز والحاجة، يُعتَدى على المنازل والسيارات، وتُقطَع الجيوب في الأسوق والحافلات. والرسولﷺ يقول فيما روى الإمام مسلم،: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا، -ويشيرﷺ إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه».
فالزكاة –يا عباد الله- طهارة للأغنياء، كما هي طهارة للفقراء، لأن الغني عندما يتواضع، ويبحث هو بنفسه عن الفقير والمسكين فيدفع له من زكاة ماله، فيسعفه ويقضي حاجته، فهو بذلك يعوِّد نفسه التواضع والتضامن والإحسان، يعوِّد نفسه الجود والكرم والبذل والعطاء، يمرِّن نفسه على الابتعاد عن أمراض الأغنياء، فهو بذلك أيضا إنما يمد يده الرحيمة لتمسح عن قلب الفقير آثار الفقر والحرمان، إنما ينسج خيوطا من المحبة بينه وبين الفقراء. ‍‍
فالزكاة والصدقة إذن هي رابطة المودة بين طبقات المجتمع المتفاوتة ماديا، فتجعلهم في تجانس وتوافق معنويا، وهي آصرة المحبة بين الفقراء والأغنياء، وهي مدرسة أخلاقية كبيرة، تعلم المسلم كيف يتواضع، وتعلمه الكرم والجود والإحسان، وتعلمه أن يحب لغيره ما يحب لنفسه، وتعلمه كيف ينأى بنفسه عن رذائل الكبر والأنانية، وبراثين البخل والشح، ومستنقعات الشره والطمع، كما تزرع أيضا في قلوب الفقراء، المحبة والمودة والاحترام والإخاء، وتنتشلهم من أو حال الحقد والحسد والبغضاء، والرسول يعوِّد يقول فيما روى البخاري ومسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ويقولﷺ فيما روى البزار بإسناد جيد: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة ليست حالقةَ الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يٌثْبِت لكم ذلكم؟ أفشوا السلام بينكم»(2) ويقولﷺ فيما روى الحاكم وصححه: «الكفارات إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام»؛ فهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)…
فاللهم اجعلنا من الذين يقولون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العالمين…‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛
لقد جاءت الزكاة في القرآن الكريم مقرونة بالصلاة ثلاثين مرة؛ فإذا كانت الصلاة هي أولَ حق من حقوق الله، فإن الزكاة أولُ حق من حقوق العباد، يقول الله سبحانه: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون)، روى الطبراني بإسناد صحيح أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له». 
ألا فاجتهدوا -رحمكم الله- في أداء حقوق الله وحقوق العباد، وأدوا زكاة أموالكم لتكون لكم عند الله خير زاد، ولا تقعدوا عن أدائها في وقتها إلى المستحقين من أهلها فإن ذلك في الشرع فساد، والله عز وجل يقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)…
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة بعنوان: "لا يعترف بنعمة الاستقلال من لا يعرف نقمة الاستعمار"

خطبة بعنوان تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال

خطبة الجمعة من صفحة نفحات من المنبر بعنوان التبرع بالدم صدقة جارية