خطبتان :الأولى: صلاة الجماعة بسبع وعشرين درجة الثانية: الخشوع في الصلاة أداة إصلاح



تلبية لرغبة بعض الأئمة أعيد نشر خطبتين قديمتين في عبادة الصلاة:
الأولى: صلاة الجماعة بسبع وعشرين درجة
الثانية: الخشوع في الصلاة أداة إصلاح
لعل موضوعهما يكون مناسبا لمن أحب أن يستأنس به، أو يوظفه بعد أن ينظفه، فينقحه من أخطائي ليلقحه بأفكاره بشرطين:
1) الدعاء لي -بعد الإخلاص- عن ظهر الغيب.
(2 غض البصر -بعد الإصلاح- عما فيها من العيب.
ودعواتكم رأس مالي ورصيد اعتمادي
عبد الله بنطاهر
**********************
الأولى: صلاة الجماعة بسبع وعشرين درجة
تاريخ إلقائها: 2 جمادى الأولى 1426 هـ 10 / 6 / 2005 م
لبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
الحمد لله الذي أنزل علينا كتابا كالشمس وضحاها، وأرسل إلينا رسولا كالقمر إذا تلاها، فمن اقتدى بهما عاش في ضوء النهار إذا جلاها، ومن أعرض عنهما تخبط في ظلمة الليل إذا يغشاها، وأشهد أن لا إله إلا الله رفع السماء وبَنَاهَا، وَبسط الأرْض وطَحَاهَا، وخلق النَفْس وسَوَّاهَا، فأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، فأَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وخَابَ مَن دَسَّاهَا، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أخبره ربه أنه أهلك ثمودا بطغواها، وأنه سبحانه وتعالى لا يخاف عقباها، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه من أمته أولاها وأخراها.
اللهم اجعلنا ممن يعلمون فيعملون، وممن يعملون فيحسنون، وممن يحسنون فيخلصون.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
دعونا نبدأ خطبة اليوم من تساؤل بسيط: لو قيل لأي واحد منا: إن سلعتك سوف تلقى رواجا لو انتقلت بها إلى بلد معين، وإن تجارتك ستكون مربحة في أحد الأسواق، أفلا يقطع من أجل الوصول إلى هذا السوق الفيافي والقفار؟ أفلا يقطع من أجل الوصول إلى ذلك البلد الأجواء والبحار والفجاج والأنهار؟ أفلا يتجشم في سبيل ذلك المشاق والأسفار؟ حتى ولو كان الربح بالضعف مرة واحدة؛ فكيف لو كان الربح بالضعف مرتين؟ فكيف لو كان الربح بالضعف خمس مرات؟ فكيف لو كان عشرا؟ فكيف لو كان عشرين؟ فكيف لو كان خمسا وعشرين أو سبعا وعشرين ضعفا؟ فلا يسعه إلا أن يطير لتحقيق ذلك فورا، لا يشغله عنه شيء، وقد يكون من أخبره بذلك كاذبا، وقد يكون الخبر مظنونا وليس بمضمون، ولكنه ذاهب على كل حال، لا يستسيغ أن تفوته هذه الفرصة الفريدة، هكذا كان أغلب الناس فيما يخص الدنيا الفانية.
أيها الاخوة المؤمنون؛ لعلكم الآن في حيرة، ما المقصود بهذا كله؟ إن الصادق المصدوق والنبي الأمينﷺ هو الذي أخبركم وخبره كله صدق ويقين، هو الذي كشف لكم عن ربح مضمون وليس بمظنون، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: «صلاة الرجل في جماعة تضعف (تزيد) على صلاته في بيته، وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة»، وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللهﷺ قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة».
والخاسر كل الخاسر من اكتفى بدرجة واحدة والسبع والعشرون في متناول يده، فكيف يبخل العاقل على نفسه وهو يعلم أن الربح في الصلاة جماعة بسبع وعشرين ضعفا بينما لا تسمح له نفسه أن يضيع ربحا في الدنيا بضعف واحد؟! والضعف في الدنيا مهما عظم يصير فانيا، والضعف في الآخرة مهما قل يظل باقيا.
ولم يقف الربح عند هذا الحد ففي كل خطوة يخطوها المسلم إلى المسجد حسنات، وفي كل حركة يقوم بها للصلاة جماعة بركة، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول اللهﷺ قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!»، وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: «من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكمﷺ سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف».
وقد استشعر السلف الصالح أهمية فضل الصلاة جماعة، فحملوا هموم المحافظة عليها، حتى وهم يفارقون الحياة؛ فهذا عمر رضي الله عنه لما طعنه اللعين أبو لؤلؤة، بسيف مسموم فقطع أمعاءه، وهو راكع في صلاة الفجر، فاتته ركعة واحدة، لأن النزيف الدموي غلبه حتى خر مغشيا عليه، فلما أفاق سأل هل صليت؟ قالوا: بقيت عليك ركعة واحدة −يا أمير المؤمنين− فقام يقضيها فأغمي عليه، ثم قام فأغمي عليه، وهكذا حتى أتم الركعة فقال: "الحمد لله الذي أعانني على الصلاة" وهو الذي قال في وصيته لجيشه الفاتح: "اللـهَ اللـهَ في الصلاة فإنكم إنما تهزمون بالمعاصي"، نعم يا أمير المؤمنين! هاهم المسلمون اليوم ضيعوا وصيتك فانهزموا بالمعاصي.
وهذا سعيد بن المسيب، إمام التابعين، يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يتبسم، وحق له أن يتبسم! أتدرون لماذا؟ لما سئل عن ذلك قال: "والله ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد قبل الأذان" يا سبحان الله! أربعون سنة −يا جماعة!− ونحن لا نكاد نتم في هذه الفضيلة حتى أسبوعا، بل حتى يوما واحدا.
وهذا ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير حفيد أبي بكر الصديق، يسمع آذان المغرب في المرض الذي مات منه، فيقول لأبنائه: احملوني إلى المسجد. فقالوا: إنك مريض وقد عذرك الله حين قال سبحانه وتعالى: {ولا على المريض حرج}، فيقول: لا إله إلا الله؛ أسمع حي على الصلاة ثم لا أجيب! والله لتحملونني إلى المسجد. ففعلوا، ولما كان في السجدة الأخيرة من صلاة المغرب قبض الله روحه الطاهرة، وكان رضي الله عنه يقول في دعاءه: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة. قيل له: وما الميتة الحسنة؟ قال: أن أموت وأنا ساجد لربي.
نعم أيها الأخ المسلم! الميتة الحسنة أن يتوفاك الله وأنت تعمل صالحا: تصلي أو تقرأ القرآن أو تطلب العلم أو في مجلس الذاكرين. والميتة القبيحة: أن يموت الإنسان وهو يسمع أغنية خليعة أو سهرة فاسقة أو على كأس الخمور أو في مجالس الغيبة.
هكذا −يا عباد الله− كان السلف الصالح الذي تربى في أحضان النبي المصطفىﷺ، يعاني أحدهم من الموت والسكرات، وكل همه في المحافظة على الصلوات، ونحن اليوم نعتني بالشهوات والنزوات، وكل همنا هل من مزيد من الشهوات والنزوات؟؟ لقد زينا الشيطان لنا أعمالنا، فقبعنا في منازلنا، تلهينا وسائل الإعلام بفسقها عن ذكر الله وعن الصلاة، فمنا من يكتفي بالصلاة وحده، ومنا من لا يصلي إلا يوم الجمعة والعيدين، ومنا من لا يصلي إلا في رمضان. يقول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً}، والغي ود في جهنم تستعيذ منه أوديتها، قال العلماء في هذه الآية: إنهم ما تركوا الصلاة بالكلية؛ ولكن أخروها عن وقتها، وضيعوا جماعتها، أي إسلام إذن لإنسان قد ضيع صلاته وهي مناجاة ربه؟ ما معنى لا إله إلا الله في حق رجل تؤخره تجارته أو وظيفته أو عمله أو منصبه أو اجتماعه عن جماعة الصلاة، ثم يتبجح بعد ذلك مدعيا أنه مؤمن كامل الإيمان، والله سبحانه وتعالى يقول: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}، إن المنافقين أيضا يصلون، ولكنهم كسالى: يصلون الفجر مع طلوع الشمس، والظهر والعصر مع الغروب، والمغرب والعشاء بعد الانتهاء من برامج الفضائيات التي في الواقع لا تنتهي، من نشرات الأخبار، إلى أفلام الفجور، إلى مسابقات القمار، يتفرج فيمن سيربح ومن سيخسر؟ ولم يدر المسكين أنه من أكبر الخاسرين، والرسولﷺ يقول في الحديث المتفق عليه: «أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء»، ويقولﷺ فيمن يؤخر صلاة العصر عن وقتها: «تلك صلاة المنافق؛ يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله إلا قليلا»، فيكون نصيبهم من صلاتهم الويل والثبور، ولله تعالى يقول: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون}، والمسلم لا يجوز له بحال من الأحوال أن يستسلم لعوائد المنافقين، فالنفاق مرض تقشعر منه جلود المؤمنين، وتنفر منه نفوس المتقين، وخصوصا حينما يتذكرون قوله سبحانه وتعالى في مصيرهم: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون: في إحدى غزوات النبيﷺ اتفق الكفار على الهجوم على المسلمين بغتة إذا كانوا في صلاة العصر، لأنهم يعلمون أن المسلم لا يجوز له إخراج الصلاة عن وقتها مهما كان، فنزل جبريل فأخبر النبيﷺ بخطة الكفار الماكرة، فما ذا فعل الرسولﷺ؟ هل قال للصحابة: أنتم اليوم لا صلاة عليكم لأنكم في الجهاد؟ أو قال لهم: أخروها إلى المساء وصلوها مجتمعة مع غيرها؟ لو كان واحد منا اليوم حدث له مثل هذا، أو أقل من هذا، بل مجرد خدمة وعمل، بل مجرد الجلوس أمام الشاشة، لضرب بالصلاة وأوقاتها عُرض الحائط!! ولكن النبيﷺ عند ما علم بخطة الكفار الغادرة، صلى بالناس صلاة الخوف.
أتدرون ما هي صلاة الخوف؟ إن النبيﷺ قسم الجيش إلى طائفتين: طائفة تصلي بالنبيﷺ، وطائفة في حراسة، فلما صلىﷺ نصف الصلاة جلس، وأتم من وراءه الصلاة، فذهبوا إلى مواقعهم العسكرية، وجاءت الطائفة الأخرى فصلت بالنبيﷺ بقية الصلاة، وفي هذا يقول الله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة}، تلكم هي صلاة الخوف إذا لم يباغت العدو المسلمين، أما إذا كتف العدو الهجوم من كل جانب، فيقول الله تعالى فيها عندئذ: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا}، يصليها المسلم بالإشارة أثناء القتال وهو يركب دابته، أو يقود دبابته، أو يحمل رشاشا، أو يقود طائرة، ويصليها المريض في سريره، والمسافر على مركبه. والطبيب وهو يقوم بعملية جراحية معقدة، ولو كان للمسلم عذر في ترك الصلاة لكان الأولى به المجاهد في سبيل الله، الذي يضحي بنفسه وماله.
فهذا يا عباد الله: إن دل على شيء فإنما يدل على أن الصلاة لا يجوز بحال من الأحوال إخراجها عن وقتها.
ألا لا عذر لمسلم يؤخر الصلاة عن وقتها! وقد كانت آخر وصية للرسولﷺ وهو في سكرات الموت: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم»، وهو الذي قال فيما روى الطبراني: «لا دين لمن لا صلاة له، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد». يقول الله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون}.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة و السلام على رسول اللهﷺ...
**********************
الثانية: الخشوع في الصلاة أداة إصلاح
تاريخ إلقائها: 9 جمادى الأولى 1426 هـ 17 / 6 / 2005 م
لبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
الحمد لله الذي جعل رأس الدين الصلاة في إذعان وخضوع، وجعل أساس الصلاة التدبر والخشوع، وأشهد أن لا إله إله إلا الله البصير السميع، شهادة ننال بها من الله المقام الرفيع، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل من عبد الله بالسجود والركوع، وفاضت عيناه من خشية الله بالدموع، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم يكون فيه إلى الله الإياب والرجوع.
اللهم إنا نعوذ بك من نفس لا تشبع، ونعوذ بك من صلاة لا تنفع، ونعوذ بك من دعاء لا يسمع، ونعوذ بك من قلب لا يخشع.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛
قد قدمنا لكم في الخطبة الماضية فضل المحافظة على الصلاة في الجماعة، وأنها تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وكنا قد بدأنا خطبة ذلك اليوم بتساؤل بسيط: لو قيل لأي واحد منا: إن سلعتك سوف تلقى رواجا لو انتقلت بها إلى سوق معين، أفلا يقطع من أجل الوصول إلى هذا السوق الفيافي والقفار، والأجواء والبحار، والفجاج والأنهار، أفلا يتجشم في سبيل ذلك المشاق والأسفار، حتى ولو كان الربح بالضعف مرة واحدة؛ فلم لا نفعل ذلك من أجل سبع وعشرين ضعفا في الصلاة جماعة؟ والله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}، ويقول سبحانه: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
ودعونا نبدأ خطبة اليوم بتساؤل آخر بسيط ومثال آخر واضح: فلو أن أحدنا وقف أمام أمير من أمراء الدنيا، أو وزير أو ولي أو رئيسه في العمل، فكيف سيكون حاله؟ لا شك أنه سيستجمع قلبه لامتثال الأوامر والنواهي، سيكون على أتم الاستعداد للامتثال بالإشارة قبل العبارة، سيكون حاضرا بكيانه كله بقلبه وعمله، بمظهره ومخبره، سيركز وسيخضع وسيخشع، بل قد يرتعد ويرتعش وتقشعر منه الجلود.
هكذا يكون حالنا ونحن في مقابلة إنسان بشر مخلوق، ولكننا إذا وقفنا أمام ملك الملوك في الصلاة، في مناجاة رب العالمين، ندعو ونلهو، نقدم مصالحنا على صلواتنا، نضيع صلاتنا في سبيل مشاغلنا، بل إننا كثيرا ما نقدم شهواتنا على صلواتنا، وقد حذرنا الله من ذلك فقال سبحانه: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}؛ وإنها لمقارنة عجيبة! وإنها لمفارقة غريبة! {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
أتدرون لماذا؟ لأننا نصلي في غالب الأحيان دون خشوع، لا نؤثر في الصلاة ولا نتأثر بها، والصلاة لا تؤثر إلا إذا بنيت على أسس ثلاثة: عبادة الجسد بالحركات والأقوال، وعبادة العقل بالتدبر والتفكير، وعبادة الروح بالخضوع والخشوع.
فبالخشوع تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، وبالخشوع تكون مقبولة عند الله تعالى، والخشوع في الصلاة هو الذي يؤدي إلى الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة يقول الله عز وجل: {قد أفلح المومنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}، والخشوع هو الذي يخفف الصلاة ويجعلها سهلة وإن كانت طويلة، قال تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}، وقد كان النبيﷺ يستعيذ بالله من الصلاة التي لا خشوع فيها، فقد روى أبو داود وابن حبان واللفظ له عن أنس بن مالك أنهﷺ قال: «اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع، وأعوذ بك من صلاة لا تنفع، وأعوذ بك من دعاء لا يسمع، وأعوذ بك من قلب لا يخشع».
أيها الاخوة المؤمنون لقد أصبحت الصلاة عندنا مع الأسف عادة لا عبادة، نصلي بأجسامنا وأعضائنا، فنحرك ألسنتنا وشفاهنا، نرفع أيدينا مكبرين، وننحني بظهورنا راكعين، ونخر للأذقان ساجدين، ولكن قلوبنا لا تتحرك نحو رب العالمين، وأرواحنا لا تعرج بنا نحو خالقها وبارئها، ونفوسنا لا تستشعر خوف الله وعظمته، نقرأ القرآن في الصلاة ولكن لا نتدبر، ونسبح ولكن لا نفقه تسبيحنا، نقف أمام الله ولكننا في الحقيقة واقفون أمام مشاريعنا ومشاغلنا، أجسامنا في بيوت الله، ولكن قلوبنا في بيوتنا ومعاملنا، نذكر الباقيات الصالحات في الصلاة: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله الله أكبر) ولكن نفوسنا عند زينة الحياة الدنيا، والله يقول: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}؛ فالأفكار الدنيوية تتزاحم أثناء الصلاة علينا، والأشرطة تمر بسرعة في أذهاننا، فنتذكر كل شيء إلا شيئا واحدا هو أننا الصلاة، قلما نتذكر أننا واقفون بين يدي أحكم الحاكمين؛
والدليل على ذلك أنك ترى الناس أثناء الصلاة يقومون بأعمال تنافي الخشوع والخضوع، وتدل على أن قلوبهم لاهية غافلة، والرسولﷺ يقول: «اعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاه» أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وقال: حديث مستقيم الإسناد.
فمن الناس من يلتفت في الصلاة يمينا وشمالا يراقب الداخل والخارج حتى إنك لتظن أنه ليس في الصلاة، ولم يدر المسكين أن الالتفات سرقة الشيطان من صلاة العبد وأن من أعرض عن الله أعرض الله عنه روى البخاري أن عائشة سألت النبيﷺ عن الالتفات في الصلاة فقالﷺ: «اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد»، وروى الإمام أحمد أن رسول اللهﷺ قال: «لايزال الله مقبلا على العبد في صلاته مالم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه».
ومن الناس من يسرع في صلاته، فينقرها كنقر الديك، فيعطل أركانها، وقد رأى الرسولﷺ أعرابيا يسرع في صلاته فقال له: «ارجع فصل فإنك لم تصل»، ورأى آخر يسرع في صلاته فقالﷺ: «ترون هذا لو مات، مات على غير ملة محمدﷺ، ينقر الصلاة كما ينقر الغراب الدم» رواه ابن خزيمة في صحيحه، وسمى الرسولﷺ هذا النوع من الصلاة صلاة المنافق كما روى البخاري ومسلم.
ولست أدري لماذا هذه السرعة في الصلاة؟ أثقل عليه الوقوف أمام الله تعالى؟ أم أنه في مسابقة يريد أن يحطم فيها الأرقام القياسية؟ أم أن مشارعه هي التي استحوذت عليه فأراد أن يسرع إليها؟ والله تعالى يقول: {واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، وأنهم إليه راجعون}.
ومن الناس من يلعب وهو في الصلاة بيديه، أو يصلح ثيابه، أو يسوي طاقيته أو عمامته، أو يلعب بلحيته إن كانت له لحية، أو يمسح على خده الأملس إن خالف السنة، روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنِ النّبِيﷺ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلاَ أَكُفّ ثَوْباً وَلاَ شَعْراً»، وجاء في الأثر «لو خشع قلب هذا لخشعت يداه»، والقلب إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله، وجاء في الأثر أيضا «من صلى ولم يعط كل عضو منها حقه لعنه ذلك العضو حتى يفرغ من صلاته».
ومن الناس من يصلي وينظر إلى السماء يتملى سقف المسجد كأنه مهندس معماري أو مهندس ديكور، والرسولﷺ يقول فيما روى البخاري: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم لينتهُنَّ عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم».
ومن الناس من يقف في صفوف معوجة، واعوجاج الصفوف ينافي الخضوع والخشوع، ولطال ما يسمعون: «سووا صفوفكم» فلا يتحركون، والصف إذا اعوج أو كان ناقصا، تسرب أثره إلى الصلاة فكانت ناقصة أيضا، لأن الرسولﷺ يقول: «سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة» وفي رواية «من حسن الصلاة» بل يتسرب أثر اعوجاج الصفوف إلى القلوب فتتنافر وتتباغض يقول الرسولﷺ: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم»، وفي رواية «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»، وروى أبو داوود بإسناد صحيح أن النبيﷺ قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا في أيدي إخوانكم، ولا تذرا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله».
والواقع يشهد على تنافر القلوب باعوجاج الصفوف، فترى هذا يفرق رجليه ليسد الخلل، والآخر بجانبه يجمعهما لأنه يطأ عليه، وهذا يلصق منكبيه بمنكب من بجانبه، والآخر يتنافر منه لأنه يدفعه.
ألا فاتقوا الله عباد الله؛ ألا فحافظوا على الصلوات في أوقاتها، ألا فكونوا فيها من الخاشعين، {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}.
صدق الله العظيم وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المسلمون؛ إن الخشوع في الصلاة أداة عظيمة من أدوات الإصلاح، فالإنسان الخاشع لله يعلم أن الله تعالى يراه فيتوب إليه، ويقتلع من ذنوب كان يرتكبها، والإنسان الخاضع لله يربي أولاده وفق شريعة الله، والإنسان الخاضع لله تعالى لا يخدع عباد الله، والإنسان الخاشع للواحد الأحد لا يغش أحدا. والإنسان الخاضع لله لا يعدو الحدود، ولا يعتدي على أحد في بيعه وشرائه، ولا في شرفه وعرضه، ولا في أولاده وأهله، ولا في جسده وماله، ذلكم هو معنى قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.
وإن مما يدل على كمال الصلاة بخشوعها وخضوعها أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، وتطهره من الأدناس والأرجاس، فالإنسان الذي يصلي لكنه يأكل أموال الناس بالباطل، ويسعى بالفساد بين الناس، ويقوم بأعمال تتنافى مع الدين، صلاته لازالت ناقصة وغير مقبولة، والإنسان الذي يتخذ الصلاة أحبولة يتصيد بها ثناء الناس ومدحهم، ويتستر بها عن كثير من منكراته، يقول الله تعالى فيه: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}، فهو يرائي في صلاته وينفق حيث يراه الناس، ولكنه في الخفاء يأكل أموال عباد الله، فتراه في الميادين العامة يظهر نفسه محسنا كريما، يوزع الأموال بسخاء يمينا وشمالا، يرسل هذا للحج وذلك للعمرة، ولكنه يتعامل بالربا، ويتعاطى الرشوة، وتراه في الصلاة يظهر الخضوع والخشوع إلى حد البكاء ولكنه في معاملاته قد خدع وغش عباد الله فتبرأ منه الرسولﷺ إذ يقول: «من غشنا فليس منا»، وقد بين الله تعالى في الحديث القدسي الجليل الميزان الذي يقبل الله به صلاة عباده، روى البزار عن ابن عباس قال: قال رسول اللهﷺ: «قال الله تبارك وتعالى: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلأه بعزتي، وأستحفظه ملائكتي، أجعل له في الظلمة نوراً، وفي الجهالة حلماً، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة».
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة بعنوان: "لا يعترف بنعمة الاستقلال من لا يعرف نقمة الاستعمار"

خطبة بعنوان تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال

خطبة الجمعة من صفحة نفحات من المنبر بعنوان التبرع بالدم صدقة جارية