خطب جيدة في موضوع الزكاة



الأولى عنوانها: "الزكاة بين أداء فرضها وعقوبة رفضها"
تاريخ إلقائها: 18 محرم 1435 هـ 22/11/ 2013 م
الحمد لله حمدا يفوق حمد كل محمود، سبحانه وتعالى وهو الحكيم الودود، حذرنا من منع الزكاة بعقاب تقشعر منه الجلود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا والد ولا مولود، شهادة نتقي بها نارا الناس والحجارة فيها وقود، شهادة تنفعنا يوم يكون الناس بين شاهد ومشهود، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله شرع الشرائع وحدد الحدود، ففرض على المسلم أداء الزكاة دون نكران ولا جحود، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين بذلوا في نشر الإسلام كل مجهود، فنالوا من الله النصر المنشود، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى اليوم الموعود. 
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته. 
قد قدمنا لكم في بداية شهر محرم أن كثيرا من الناس في هذا الشهر يخرجون زكاة أموالهم؛ فهنيئا لمن برأ ذمته وطهر نفسه وزكى ماله، هنيئا له السكن والطمأنينة، يقول الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وويل لمن ضيع زكاة ماله، ولوث نفسه، ويل له من عقوبة لا يموت فيها ولا يحيا. 
فتعالوا بنا اليوم نرفع الستار عن الزكاة بين أداء فرضها وعقوبة رفضها، لنقف على ثواب يعاينه من أداها، وعلى عقاب يعانيه من منعها، ولنعرف ما يترتب على أدائها من منافع وفوائد مؤثرة، وعلى رفضها من متاعب ومصاعب مثيرة.
أما من أدى فرضها فيكفي أن نعلم أن ثوابه ينمو ويربو، ويتضاعف في كف الرحمن حتى يكون أعلى من الجبل، وإن كانت تمرة كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم. ويقول الله تبارك وتعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)، ويكفي أن نعلم أن الزكاة تطفئ الخطايا وتمحو الذنوب؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار». ويقول صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة». 
أما عقوبة رفضها فتتمثل في أمرين: سوء المعيشة في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة. 
أما سوء المعيشة في الدنيا التي تنزل على مجتمع لا يخرج أغنياؤه زكاة أموالهم فاستمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك إذ يقول فيما روى ابن خزيمة والحاكم وصححه: "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره". والحديث يدل بمفهومه، على أن المال بدون الزكاة كله شر ونقمة ووبال على صاحبه، لا يجني منه إلا التعاسة النفسية والمادية في الدنيا، ومن تلك التعاسة جفاء القلوب، وجفاف الأمطار، والأخذ بالسنين، والأزمات الاقتصادية، وانتشار الفقر المدقع، ونزع البركة من المال والبنين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه وغيره: "ما منع قوم الزكاة إلا منع القطر ولولا البهائم لم يمطروا"، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام مسلم: "ليست السنة بأن لا تمطروا! ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئا" ويقول صلى الله عليه وسلم فيما روى الطبراني بسند رجاله ثقات: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين".
نعم -يا عباد الله- ها هو الواقع يشهد، وها هو الفقر المدقع يضرب رقمه القياسي في مسرح الأمة المسلمة، والمسلمون ليسوا في حاجة للثروات والأموال، بالقدر الذي هم في حاجة لتطبيق شريعتهم، لإخراج زكاة أموالهم، وخمس ركازهم وثرواتهم ومعادنهم؛ أليست الرقعة الإسلامية في الكرة الأرضية أغنى رقعة في العالم؟ لقد حبا الله العالم الإسلامي بخيرات وثروات هائلة، ولكنها متداولة في أيدي أفراد معدودين، فيا ليتهم صرفوها في الخير وأخرجوا زكاتها إذ أخذوها، إنهم يستنزفونها في نزواتهم وشهواتهم، فاجتاح سوادَ الأمة الفقرُ المدقعُ في صورة الجفاف وقلة الأمطار، أو الفياضانات وكثرة الأمطار، والغرمُ المفظعُ في صورة الديون الربوية القاتلة، والهرج والمرج في صورة الحروب الأهلية، وإن من العيب بمكان، أن يعاني بعض المسلمين من الجوع والعطش والبطالة، في حين يعاني البعض الآخر من الشبع والتخمة والبدانة! والتبذير يؤدي إلى التبديل؛ لا تبذر فيبدل الله عليك نعمه.
وفي الحقيقة -يا عباد الله- أن مشاكل الأمة اليوم حلها في أمرين: أن يخرج الأغنياء زكاة أموالهم، وألا تسرق أموال الأمة، وأعني بالأغنياء أولئك الذين يملك الواحد منهم ما يشبع شعبا بأكمله، ولا أعني بالسرقة هنا تلك الدراهم المعدودة التي تسرق بين حين وآخر بسب الفقر والعوز، وإنما أعني تلك الملايير الغير المعدودة، التي تسرق من الأمة كل حين، وتكدس بالبنوك بسب الشره والطمع، من طرف أولئك المختلسين الذين كل همهم أن يكنزوا الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. 
ذلكم -يا عباد الله- هو شر المال في الدنيا إذا لم تخرج زكاته، إنه الأخذ بالسنين، والأزمات الاقتصادية الخانقة، والقحط والجفاف، والفقر والجوع والحروب الطاحنة. 
أما شره في الآخرة فشيء تقشعر منه الجلود، وتتفتت لذكره القلوب، فلنستمع للرسول صلى الله عليه وسلم يكشف عن صور يعذب الله فيها أولئك الذين ضيعوا الزكاة. 
الصورة الأولى: يصور لنا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأكل زكاة ماله، بإنسان بائس يوم القيامة، تحول ماله إلى ثعبان مسموم، قبيح المنظر مخيف، أقرع له زبيبتان، يلتف بصاحبه ويعذبه في وحشية القبر قائلا: أنا كنزك أنا مالك.
تصور -أخا الإسلام- حالة إنسان فاجأه ثعبان في الدنيا! لو اطلع عليه لملئ منه رعبا ولولى هاربا، فكيف به من لسعات ثعبان الآخرة، إذا لم يخرج زكاة ماله، حيث لا مفر ولا مفزع؛ في هذه الصورة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم: "من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، (أي نقطتان سوداوان فوق عينيه) يطوقه يوم القيامة … ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: (ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة).
الصورة الثانية: يصور لنا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بعدسته النبوية، ذلك الإنسان البائس، الذي تحول ماله إلى صفائح من نار، يحرق بها جنبه وجبينه وظهره، في يوم طويل موحش، مقداره خمسون ألف سنة. وهل يحب المسلم أن يحرق بالنار في الدنيا، فإنها وإن وصلت في درجتها ما وصلت، ليست إلا جزء من سبعين جزء من نار جهنم كما جاء في الحديث المتفق عليه؛ في هذه الصورة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام مسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفايح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بَرَدَت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيُرى سبيلُه: إما إلى الجنة، وإما إلى النار" يقول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون).
الصورة الثالثة: يصور فيها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم وجبة مانعي الزكاة، تلك الوجبة التي تتمثل في الزقوم الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى الترمذي وصححه: "لو أن قطرة من زقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على الناس معايشهم، فكيف بمن يكون طعامَه!" والتي تتمثل في الضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، جاءت هذه الصورة في ليلة الإسراء حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى البزار قوما يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله، وما ربك بظلام للعبيد.
الصورة الرابعة: يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذي يأكل زكاة ماله دون وجه حق، يأتي يوم القيامة حاملا على ظهره ممتلكاته! بهائم كانت أو عمارات، أو سيارات، أو سفنا أو طائرات أو متاجر أو مصانع أو مواد، يعذب بحملها وقوته منهكة، لا تعدو قوة الفراش المبثوث. في هذه الصورة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم: (لا ينال أحد منكم من الزكاة شيئا، إلا جاء به يوم القيامة، يحمله على عنقه: بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر).
أيها الإخوة المؤمنون؛ نظرا لهذه الفتن والمهالك في الدنيا والآخرة، التي كان سببها عدم إخراج الزكاة، شن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته حربا ضد المرتدين حين رفضوا دفع الزكاة، فقال قولته المشهورة: "والله لو منعوني عقالا –أي حبر بعير– كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه" وبهذا كان أبو بكر رضي الله عنه أول حاكم أقام حربا دفاعا عن حقوق الفقراء والمساكين، فهل سمعتم قط في التاريخ بأن حاكما حارب من أجل حق الفقير؟ فالحروب التي قامت -وخصوصا في عصر الحضارة اليوم- كانت كلها من أجل قمع الفقراء، وتشريدهم واغتصاب أرضهم، واستعمار أوطانهم، واستغلال خيرات بلادهم، كانت كلها من أجل مصالح الأقوياء، من أجل إشباع شره الرغبات، وإطعام طمع الشهوات. 
أما أبو بكر فقد تخرج من مدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فسجل للتاريخ أول حاكم حارب من أجل إطعام الفقراء، من أجل إخراج الزكاة ممن مال الأغنياء… 
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ إن الزكاة لا تكون مقبولة عند الله تعالى إلا بشروط ثلاثة لابد من توفرها: شرط قلبي (أي: مصدره القلب)، وشرط قبلي (أي: قبل الصدقة)، وشرط بعدي (أي: بعد الصدقة).
أما الشرط القلبي فهو أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، فزكاة الرياء والسمعة مردودة على صاحبها يوم القيامة، والقرآن الكريم يقول فيه: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان) أي: حجر أملس (عليه تراب، فأصابه وابل) أي: مطر شديد (فتركه صلدا) أي: لا شيء عليه من التراب فلا ينبت شيئا، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: -وعد منها- رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». ولا يضرك بعد ذلك إذا كانت صدقتك خالصة من قبلك أن يعلم الناس بها؛ فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه الناس أعجبه ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «له أجران: أجر السر، وأجر العلانية». 
أما الشرط القبلي فهو أن تكون من المال الحلال، والله تعالى يقول: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا». 
أما الشرط البعدي فهو ألا تتبع بالمن والأذى؛ بأن تقول للإنسان الذي أعنتَه مفتخرا عليه: ألستُ قد تصدقتُ عليك وأعنتُك يوم كذا بكذا؟ ألم أُحسن إليك فجبرتُ حالك؟ فإن ذلك مبطل للزكاة يمحو جزائها وثوابها، والقرآن الكريم يقول في صدقة المنان: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)، ويقول سبحانه: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى).
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثانيةعنوانها: الزكاة طهارة.
تاريخ إلقائها: 9 محرم الحرام 1426 هـ 18 / 2 / 2005 م
الحمد لله الذي جعل الزكاة ركنا من أركان الإسلام، وأوجبها من مال الأغنياء طهرة لهم من البخل والشح والآثام، ومواساة لذوي الحاجة والأرامل والأيتام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، جعل الإنفاق في سبيل الله تزكية للنفوس وتخفيفا للآلام، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد الأنام، أفضل من أنفق في سبيل الله فنال مراتب الجود والإكرام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، وعل التابعين لهم بإحسان إلى نهاية الأيام والأعوام. 
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! 
أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته، فإن تقوى الله حصن حصين، وملجأ أمين، (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).
إن كثير من الناس في هذه الأيام يخرجون زكاة أموالهم، والزكاة هي ركن من أركان الإسلام، سماها القرآن الكريم طهارة، فقال سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلواتك سكن لهم، والله سميع عليم).
وهل تدرون -يا عباد الله- كيف كانت الزكاة طهارة؟ وهل تدرون كيف تتحول هذه النسبة من مال المسلم إلى وسيلة تنظيف وتطهير؟ وهل تدرون ما معنى طهورية الزكاة؟ فذلكم هو موضوع خطبة اليوم إن شاء الله!
أيها الاخوة المؤمنون! إذا كانت الطهارة هي إزالة الأوساخ، فإن هذه الأوساخ على نوعين: 
النوع الأول: أوساخ مادية تلوث المكان والأثواب والأبدان، فهذه قد شرع الإسلام لإزالتها أمورا: منها الوضوء والغسل والنظافة، والصلاة -وهي قرينة الزكاة- لا تصح إلا بطهارة الحدث وهي الوضوء والغسل، وطهارة الخبث وهي إزالة النجاسة عن الثوب والبدن والمكان. 
النوع الثاني: أوساخ معنوية تلوث الإيمان، وتنجس المعاملات، وتوسخ الأخلاق، وتطبع القلوب، وتكدر النفوس. 
والزكاة في الإسلام ليست مجرد دريهمات تدفع للفقراء وكفى؛ بل إنها طهارة أيما طهارة! فهي طهارة القلوب وتزكية النفوس، تطهر المجتمع من أمراض الأغنياء وأوساخ الأموال، كما تطهر الفقراء من أمراض الفقر والحرمان.
أتدرون ما هي أمراض الأغنياء وأوساخ المال؟ إنها الكبر والإعجاب بالنفس، إنها الأنانية وحب الذات والدورانُ على النفس، إنها البخل والشح والشره والطمع، وكلها أمراض خطيرة، متلازمة ومترابطة، لا يكاد الإنسان يستسلم لواحدة منها إلا وجاءت البقية من بعدها تباعا، لأن الإنسان عندما يحس بأن جيبه قد امتلأ، وأن حسابه في البنوك تتكدس، يطغى ويتجبر، فتعجبه نفسه فيتكبر، فيحتقر الفقراء، ويستهزئ بالمساكين، فلا يكاد ينظر إلا إلى نفسه، ولا يستمع إلا لنفسه، فيقول كما قال قارون: (إنما أوتيته على علم عندي). فيكون كلُّ همه الحرصَ على المال، فيزداد مقياس البخل في نفسه، فيتحول إلى شح مطاع، والرسولﷺ يقول: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب الأمر بنفسه» والله تعالى يقول: (ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون) ويقول سبحانه: (وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى)، ثم يتحول البخل في نفسه وطبعه، من الشح المطاع، إلى الشره والطمع، فيكون كالذي يأكل ولا يشبع، فإذا كان طماعا بطبعه، فلا يبالي بعد ذلك من أين أخذ المال، من الحلال أم من الحرام، فيصبح الحلال لديه هو ما حل بيده، وسجله في حسابه، فتراه يتمرد على كل شرع ويتنكر لكل قانون، وهنا مكمن الداء، ورأس الأدواء، وأول ما يتمرد عليه هو الزكاة.
إنه –والله- مسلسل خطير، يؤدي بالإنسان من الاستغناء إلى الطغيان، عبر حلقات الكبر والإعجاب بالنفس، إلى البخل والشح، إلى الشره والطمع، إلى الظلم والطغيان، والله تعالى يقول: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى). 
إنها أمراض –والله- ما ضاع شرع الله إلا بها، وما ضاعت حقوق الإنسان إلا بها، وما ضاعت الثقة والأمانة إلا بها، وما ماتت الضمائر الحية إلا بها، وما سقطنا في متاهات الديون الربوية إلا بها، وما سادت الرشوة في معاملاتنا إلا بها، وما انتشر الغش في أسواقنا إلا بها، وما انتشر الظلم الاجتماعي إلا بها، وما عانت الإنسانية من الحروب والتقتيل والتشريد إلا بها. 
والرسولﷺ يحذرنا من هذا مند أربعة عشر إذا قالﷺ وهو يربط بين الشح والقتل: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقَى الشح، ويكثر الهرج. قيل: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل القتل» رواه البخاري. 
فما أصدق حديث رسول اللهﷺ! ها هو الواقع يشهد: لقد تقارب الزمان، فأصبح العالم بوسائل الإعلام قرية واحدة؛ بل قد أصبح اليوم بالانترنيت بيتا واحدا، والعمل الصالح قد تناقص، فساد العالـمَ الشحُّ المطاعُ والشرهُ والطمعُ، فَعَوْلَـمَه على حساب الفقراء، فيٌصَنَّف كل شيء حسب المصالح والأهواء، حيث لا حلال ولا حرام، ولا حدود ولا قيود، يأكل القوي الضعيف، وأصبح العالم المتحضر لا يرحم إلا الأقوياء، وأصبح العالم يسير اليوم تحت مظلة قانون الغاب، فكان نتاجُ كل ذلك قتلَ الإنسان لأخيه الإنسان، واستنزاف الأقوياء ثروات الضعفاء، وأقيمت من أجل ذلك الحروب الطاحنة، واحتلت البلدان الآمنة، وهذا هو الطغيان بعينه. 
سموك يا عصر الظلام سـفاهـة***عصر الضياء وأنت شر الأعصر
وتقدمت فيك الحضارة حسب ما***قـالوا فـيا وحشية المتحضـر
وتنورت فيك العقـول وإنـما***يقع الخـراب بـزلة الـمتنور
فالعلم قد يأتـي بكـل بليـة***ويصير نحو الموت بالمستبصـر
فالعلم بغير التقوى بلية كبرى، والله تعالى يقول: (واتقوا الله ويعلمكم الله). ولكن دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة.
تلكم –يا عباد الله- هي أمراض الأغنياء، أما أمراض الفقير وأوساخ الحرمان، فهي، بغض الأغنياء، وحسدهم، والحقد عليهم، والعمل على إيذائهم، والسطو على ممتلكاتهم بالمكر والاختلاس والخديعة، لأنهم في نظره يتمتعون وهو محروم، ويأكلون وهو جائع، ويلبسون وهو حاف عار، ويسكنون الفلل البهية والبروج المشيدة وهو متشرد في دور الصفيح؛ فبسبب أمراض الفقر والحرمان، وأوساخ العوز والحاجة، يُعتَدى على المنازل والسيارات، وتُقطَع الجيوب في الأسوق والحافلات. 
فالزكاة –يا عباد الله- طهارة للأغنياء، كما هي طهارة للفقراء، لأن الغني عندما يتواضع، ويبحث هو بنفسه عن الفقير والمسكين، فيدفع له من زكاة ماله، فيسعفه ويقضي حاجته، فهو بذلك يعود نفسه التواضع والتضامن والإحسان، يعود نفسه الجود والكرم والبذل والعطاء، يمرن نفسه على الابتعاد عن أمراض الأغنياء. فهو بذلك أيضا إنما يمد يده الرحيمة لتمسح عن قلب الفقير آثار الفقر والحرمان، إنما ينسج خيوطا من المحبة بينه وبين الفقراء. ‍‍
فالزكاة والصدقة إذن هي رابطة المودة بين طبقات المجتمع المتفاوتة ماديا، فتجعلهم في تجانس وتوافق معنويا، وهي آصرة المحبة بين الفقراء والأغنياء، وهي مدرسة أخلاقية كبيرة، تعلم المسلم كيف يتواضع، وتعلمه الكرم والجود والإحسان، وتعلمه أن يحب لغيره ما يحب لنفسه، وتعلمه كيف ينأى بنفسه عن رذائل الكبر والأنانية، وبراثين البخل والشح، ومستنقعات الشره والطمع، كما تزرع أيضا في قلوب الفقراء، المحبة والمودة والاحترام والإخاء، وتنتشلهم من أوحال الحقد والحسد والبغضاء. فهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)…
فاللهم اجعلنا من الذين يقولون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛
إن غدا إن شاء الله هو يوم عاشوراء، وهو يوم أهلك الله فيه فرعون ونجى فيه موسى عليه السلام ونصره، والرسولﷺ يشارك أخاه موسى فرحة هذا الانتصار، ويتضامن معه في هذا اليوم الأغر يوم عاشوراء، وقد وجدﷺ بعد هجرته اليهود يصومونه فقال: «نحن أولى بموسى منكم» فصامهﷺ وأمر بصيامه، فقال فيما روى الإمام مسلم: «إني أرجو من الله أن يكفر السنة الماضية» ومن السنة صوم يوم قبله أو يوم بعده حتى نخالف اليهود، يقولﷺ: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر» وقد كان الصحابة يصومونه ويصومون فيه أبناءهم ويصنعون لهم اللعب من العهن والصوف حتى ينسوا الصيام إلى الغروب كما روى البخاري.
تلكم هي سنة الرسولﷺ في عاشوراء: الصيام والذكرى، أما ما يفعل الأطفال اليوم في الشوارع من إشعال النيران، وإزعاج الناس، وفيهم الضعيف والمريض والمرأة الحامل والشيخ الكبير، فهو بدعة منكرة وفعل حرام، والله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا).
أما رش الناس بالماء في الأزقة، والتقاتل به في الشوارع، فذلك هو الفساد في العقيدة والأخلاق، لأنهم يعتقدون أن المياه تتحول إلى ماء زمزم يوم عاشوراء فهذا خرافات وكذب وبهتان، لم ينزل الله به من سلطان، ثم يؤذون به المارين ويزعجون به الناس، فهذا فساد في الأخلاق، وجفاء في المعاملات والأذواق، والماء نعمة كبرى يجب المحافظة عليه، وعدم الإسراف فيه، بحيث لا يضيع، ولا يستعمل إلا بقدر الحاجة والضرورة الملحة، وكم عانينا من شبح الجفاف، والقحط وقلة المياه، وما ذلك إلا لأننا لم نشكر هذه النعمة التي جعل الله الحياة كلها مبنية عليها، والله يقول: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) ويقول سبحانه: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).
أما تفجير تلك المفرقعات وتلك المتفجرات المعهودة فقد لوحظ في هذه السنة قلتها أو عدم وجودها! 
أتدرون لماذا؟ لأنهم منعوا استيرادها ومنعوا ترويجها لما كانت تسبب من مصائب وعاهات. والذي نتعلم من هذا أننا باستطاعتنا أن نصلح مجتمعنا لو أردنا، والذي نحتاج إليه هو أمران: قوة الإدارة وقوة الإرادة. فلو أرادوا لمنعوا عنا كل مضرات المجتمع من خمر وتدخين وزنا وتبرج وربا وهلم جرا. 
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثالثة عنوانها: "لمن تدفع زكاة مالك؟ أو مصاريف الزكاة"
تاريخ إلقائها أول مرة: 23 محرم 1421 هـ 28 / 4 / 2000 م.
ثم أعيدت أخيرا بتاريخ: 01 محرم 1434 هـ 16 /11/ 2012 م.
الحمد لله الذي جعل مصاريف الزكاة أصنافا، وبينها في كتابه الكريم فأنصف فيها إنصافا، ولم يتركها لبشر يسرف فيها إسرافا، ويجحف فيها بحق السائل والمحروم إجحافا، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة تنفعنا يوم نشرف على الموت إشرافا، وننال بها من الله يوم القيامة تكريما وتشريفا، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل من عبد الله فعلا وتكليفا، وخير من بين شرع الله ترغيبا وتخويفا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين أسعفوا بالزكاة ذوي الحاجات إسعافا، فيسروا بها على المعسرين الذين لا يسألون الناس إلحافا، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يلقى المحسنون اللـهَ فيه فرحين ضيوفا… 
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته
قد قدمنا لكم في الجمعة الماضية أن كثيرا من الناس يخرجون زكاة أموالهم في بداية السنة، ودعونا نبدأ خطبة اليوم بسؤال جاءني، له علاقة بموضوع الزكاة؛ وهو سؤال يتعلق بظاهرة تتكرر كل سنة، ظاهرة خطيرة، تستنزف فيها حصة الفقراء والمساكين من مال الأغنياء، يضيع فيها حق السائل والمحروم. 
والسؤال يقول صاحبه وهو تاجر: في هذه الأيام التي أخرج فيها الزكاة، يأتي إلي بعض الناس يطلبون مني الزكاة، وأنا أعلم أنهم ليسوا في حاجة إليها، لأن لهم عملهم، وراتبهم الشهري معتبر، وربما يأتي إلي أحدهم بسيارة من النوع الممتاز، فيطلب مني الزكاة دون حياء، وأنا أضطر لأدفع لهم الزكاة، لأن مصالحي وأغراضي تمر تحت أيديهم، وإلا فإن مصالحي سوف تتعطل، وأغراضي سوف لا تقضى، فإذا كنت أدفع درهما فأقل للمسكين الذي يأتي إلي يسعى ماشيا، فإني أضطر لأدفع مائة درهم فأعلى لمثل هذا الذي يأتي إلي يسعى راكبا، وهل يعتبر ما أدفع لهم زكاة في الشرع أم لا؟
وقبل الجواب -يا عباد الله- دعونا نرجع بكم إلى كتاب الله تعالى، لأن مصاريف الزكاة بينها لنا سبحانه في القرآن الكريم، ولم يكل أمرها لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولم يدعها لطمع الطامعين، الذين لا يهمهم إلا المنفعة الشخصية، يشبعون بها شرهم وطمعهم؛ بل بينها سبحانه وتعالى أحسن تبين، روى الإمام أحمد والطبراني أن رجلا جاء إلى النبيﷺ فقال: أعطني من الصدقة فقال لهﷺ: «إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره، حتى جعلها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك».
لقد قطع الله تعالى الطريق على أمثال هؤلاء، الذين يستغلون مواسم الزكاة، فيأكلون أموال الفقراء واليتامى ظلما، إنما يأكلون في بطونهم نارا. وفي الحقيقة أن هؤلاء ليسوا بجديد اليوم، فقد واجه النبيﷺ أجدادهم من المنافقين وأدعياء الإسلام، الذين يرضون إن أعطاهم، ويسخطون إن منعهم، وبسببهم نزلت الآية التي حددت من تعطى لهم الزكاة؛ ففي عهدهﷺ تطلع ذووا الأعين الشرهه، والأنفس النهمة، إلى الصدقات، وسال لعابُهم على الزكوات، متوقعين أن يُشبع الرسولﷺ منها طموحهم وأطماعهم، فلما رفضﷺ الاستجابة لشرههم، ولم يعبأ بهم، غمزوا ولمزوا، وتطاولوا بألسنتهم الفاسقة على المقام النبوي الشريف، فنزل القرآن الكريم يفضح نفاقهم ويكشف عن شرهم، وفي نفس الوقت يبين المصاريف التي يجب أن توضع فيها الزكاة، فذلكم هو قوله سبحانه وتعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون، ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله، وقالوا: حسبنا الله سيوتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون، إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم).
أيها الإخوة المؤمنون؛ لقد حددت هذه الآية الكريمة بأداة حصر "إنما" الذين تعطى لهم الزكاة وهم أصناف ثمانية: 
أما الصنف الأول والثاني: فالفقراء والمساكين، وهما صنفان لنوع واحد من أهل الفاقة والحاجة، فإذا ذكر أحدهما في القرآن فالمراد به ما يشمل كليهما، فإذا اجتمعا -كما في هذه الآية- فالأرجح لدى العلماء أن الفقير هو الذي لا يملك شيئا، وأن المسكين هو الذي يملك شيئا ولكنه لا يكفيه، فالفقير أشد حاجة من المسكين، والمقصود بالفقراء والمساكين الذين قال عنهم النبيﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عيله، ولا يقوم فيسأل الناس». وهذا يشمل كثيرا من أصحاب البيوت وأرباب الأسر المتعففين، الذين غلت النكبات أيديهم، وثقلت عليهم أعباء الحياة، واشتد عليهم شظف العيش، موارد رزقهم ضاقت عن سد حاجاتهم، ودخلهم الشهري لا يكفي مطالبهم الضرورية، ورغم ذلك لا يسألون الناس إلحافا، إذا رآهم من لا يعرفهم يظن أنهم في يسر وغنى، الذين وصفهم القرآن الكريم إذ قال: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم، لا يسألون الناس إلحافا). 
أما الصنف الثالث: فالعاملون عليها، والمراد بهم الموظفون الذين يعملون في الجهاز الإداري للزكاة: سواء عملوا في جمعها من الأغنياء، أو في حفظها وخزانتها، أو في كتابتها وتدوينها، أو في توزيعها على مستحقيها. 
وأخذ العاملين من الزكاة إنما هو أجر مقابل عملهم، فيجب أن يكون على مقدار ذلك دون إجحاف بحقوق الفقراء. 
هذا إذا كانت الدولة تتحمل مسؤولية الزكاة، لأن الزكاة في الإسلام ليست موكولة للأفراد فقط؛ بل هي أيضا مسئولية الدولة، فهي تنظيم اجتماعي اقتصادي، لو أحسنا استغلالها بصدق وأمانة، بحسن الإرادة وحسن الإدارة، فيُعَيَّن من يعمل عليها من أصحاب الثقة والضمائر الحية، فتؤخذ الزكاة من الأغنياء كل الأغنياء، لا يمنع هذا مركزه، ولا يحمي ذاك نفوذه، فلا بأس حينئذ أن تدفع من الزكاة للعاملين عليها رواتبهم.
أما الصنف الرابع: فالمؤلفة قلوبهم، وهم الذين دخلوا الإسلام أخيرا، وهم المسلمون الجدد في دين الله، فيعطى لهم من الزكاة حتى تألف قلوبهم نصاعة الإيمان، وتتجذر تعاليم الإسلام في معاملاتهم، وبهذا تسخر الزكاة في سبيل نشر الإسلام، وتوزيع دعوته الربانية على حنايا القلوب.
أما الصنف الخامس: فهو المقصود بقوله سبحانه: (وفي الرقاب)، والمراد به العبيد والإيماء، يعطون من الزكاة إعانة لهم على التحرر من نير الرق والعبودية، لأن الإسلام دائما متشوف إلى الحرية، ويدخل في هذا البلدان المستعمرة، التي احتل الغاصبون أرضها، واغتصب المغرضون عرضها، واستنزف المستغلون ثرواتها، من أمثال فلسطين وسوريا، وحتى لا نذهب بعيدا أقول: أمثال سبتة ومليلية، فيعطون من الزكاة إعانة لهم على التحرر وكسر قيود الذل والهوان، ونبذ الاستعمار والاستغلال إلى الحرية والاستقلال.
أما الصنف السادس: فالغارمون، والمراد بهم من أحاط الدين بماله، وأقضت هموم الديون المتراكمة مضجعه، أمثال أولئك الذين تخنقهم كوابيس الشيكات بدون رصيد، وتطاردهم أشباح المطالبين بديون مستحقة حان أجلها، الذين تباع اليوم ممتلكاتهم في المزاد العلني، فيعطون من الزكاة بقدر ما يغطي مشاكلهم ويفك أسرهم.
أما الصنف السابع: فهو في سبيل الله، والمراد به كل جهاد بذل لنشر الإسلام، وكل مجهود أريد به أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون شرع الله هو السائد، أيا كان نوع هذا الجهاد، وبأي سلاح كان، بالقلم واللسان، أو بالسيف والسنان، فقد يكون الجهاد فكريا، أو تربويا، أو اجتماعيا، أو اقتصاديا، أو سياسيا، كما يكون عسكريا، فقد قال النبيﷺ فيما روى أبو دود والنسائي وأحمد بسند صحيح: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»، فيعطى المجاهد من الزكاة وإن كان غنيا، قال رسول اللهﷺ فيما روى أبو دود والبيهقي: «لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله»؛ فمن يحمي في فلسطين النساء والولدان، فمن يوقف الظلم والعدوان، فمن ينقد القدس من سرطان الاستيطان، غير الجهاد في سبيل الواحد الديان، بالقلم واللسان، وبالعمل الدؤوب على مر الأزمان، قبل أن يكون بالسيف والسنان.
أما الصنف الثامن: فهو ابن السبيل والمراد به أصلا المسافر الذي انقطعت به السبل في غير بلده، ففني زاده أو سرق ماله، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده وأهله، ويدخل في هذا اللاجئون السوريون الذين شردتهم اليوم الأطماع والأحقاد، لمجرد أنهم قالوا: ربنا الله، ويدخل فيه أيضا هؤلاء الأفارقة الذين امتلأت بهم الشوارع ممن يسمون بالمهاجرين غير الشرعيين. ويدخل فيه أيضا طلبة العلم الذين اغتربوا عن أوطانهم من أجل الدراسة، ونحن في مدينة تحتضن جامعات وكليات يتابع فيها الدراسة طلبة من مدن أخرى، منهم من يحصل على المنحة، ومنهم من يعيش في المحنة، قد أثقلت كواهلهم مصاريف النقل وفاتورات الكراء والضوء والماء. وخصوصا منهم الذين حبسوا أنفسهم في المدارس العتيقة لحفظ القرآن وللعلوم الشرعية، وفي الحقيقة أن الطلبة بكل أشكالهم يدخلون في أربعة أصناف من أصناف الزكاة: الفقراء، والمساكين، وفي سبيل الله، وابن السبيل. 
أما الجواب عن السؤال الذي بدأت به الخطبة: فإنه ليس من هذه الأصناف أمثال هؤلاء، الذين يستغلون الدين حين يدر الأموال إلى جيوبهم، ويصب في خانات مصالحهم، ويتبرءون منه قولا وفعلا حين يقف ضد بطونهم ومطامعهم، فما يدفع لهؤلاء ليس بزكاة، ولا بصدقة، ولا حتى بهدية؛ بل هو رشوة وسحت وباطل، ملعون صاحبها، وقد لعن الرسولﷺ الراشي والمرتشي والرائش، يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) ؛ فمن فعل ذلك ولو مضطرا -كما يقول السائل- فإنه لم يخرج زكاة ماله، فإن خاف أن تتعطل مصالحه في الدنيا، فإنه إن أعطى الزكاة لأمثال هؤلاء فمصالحه في الآخرة هي التي تعطلت، (وللآخرة خير لك من الأولى)…
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العالمين… 
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ 
فإذا بين لنا القرآن الكريم الذين يستحقون الزكاة وهم أصناف ثمانية، فإن العلماء قد استنبطوا من القرآن والسنة، الأصناف التي لا يصح أن تدفع لهم الزكاة فجعلوها خمسة:
الصنف الأول: الأغنياء والرسولﷺ يقول فيما روى أبو دود والترمذي: «لا تحل الصدقة لغني»، وأقل ما يسمى غنى، أن يستطيع الإنسان أن ينفق عن نفسه وعياله، وأن يوفر بعد ذلك قسطا من المال هو في غنى عنها.
الصنف الثاني: الأقوياء الذين يستطيعون كسب قوتهم، والاعتماد على أنفسهم، إن وجدوا عملا، ولم تحكم عليهم كماشة البطالة قبضتها.
الصنف الثالث: الملاحدة والكفار، المحاربون للإسلام سرا أو علنا، والرافضون له جملة وتفصيلا كليا أو جزئيا.
الصنف الرابع: من تجب على المسلم نفقتهم، من الزوجة والأولاد والأحفاد وإن نزلوا، ووالديه وأجداده وإن علوا، لأنه إن تصدق عليهم يكون كمن تصدق على نفسه.
الصنف الخامس: آل النبيﷺ ممن نسميهم اليوم الشرفاء لقولهﷺ فيما روى الإمام مسلم وأحمد: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس»…
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة بعنوان: "لا يعترف بنعمة الاستقلال من لا يعرف نقمة الاستعمار"

خطبة بعنوان تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال

خطبة الجمعة من صفحة نفحات من المنبر بعنوان التبرع بالدم صدقة جارية