سمات وسلوك الشخصية الوطنية في ضـــــــــــــوء الشرع الحنيف

خطبة بعنـــــــــوان :
سمات وسلوك الشخصية الوطنية
في ضـــــــــــــوء الشرع الحنيف
للشيــــخ / محمد حســـــن داود


الموضـــــوع: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد :



لقد جاء الإسلام بما فيه الخير للفرد والمجتمع، فكان مما حرص عليه بناء الشخصية والرقى بها في جميع جوانبها، وسائر مكوناتها الروحية والجسدية، والعقلية والسلوكية، ظاهرا وباطنا، حتى تكون شخصية وطنية صادقة وفية لوطنها تبنى ولا تهدم، تعمر ولا تخرب، تجمع ولا تفرق، تتمسك بأسمى القيم وأفضل السلوك وأجمل الأخلاق، فلو تأملنا فيما أوجبه الشرع الحنيف من عبادات، لرأينا فيها ما يرقى بالأخلاق والسلوك، ويقوم النفس والجوارح ظاهرا جليا، فالصلاة تقوم السلوك وتسمو بالأخلاق فقد قال الله جل وعلا ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) العنكبوت45) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ . قَالَ : " إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا يَقُولُ " رواه احمد) والزكاة كما تطهر الأموال تطهر النفس من البخل والشح ليكون في المجتمع كريما سخيا متعاونا،قال تعالى  ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) التوبة103)والصوم يضفي عليه أجواء الشعور بالفقراء والمحتاجين فيكون معهم لينا كريما ، بحاجتهم إنسانا سمحا رحيما، كما يسمو بالروح والجسد إلى درجة التقوى، فقد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )البقرة183) كما أن شأنه شأن كل العبادات يهذب السلوك ويقوم الأخلاق،  فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ".  كما أن الحج يؤثر بقيمه السامية على روح الإنسان بل وجوارحه حتى يكون مع بني أمته متآخيا، منضبط الفعل والقول فقد قال الله تعالى  ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) البقرة197) .
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بناء الشخصية الوطنية وتقويم سلوكها بما ينفع المجتمع ولا يضره فلما مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا ، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا ، فَقَالَ : " مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ " ، قَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ ، مَنْ غَشَّ ، فَلَيْسَ مِنِّي " رواه مسلم) ولما جاءه فتى شابا فقال : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ ، فَزَجَرُوهُ ، قَالُوا : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ : " ادْنُهْ " ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ، قَالَ : فَجَلَسَ ، قَالَ : " أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ " ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ " ، قَالَ : " أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ " ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ " ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ، قَال : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ " ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ " ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ ، قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ " ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ" رواه احمد) وفى الدفاع عن الوطن والحفاظ عليه والتضحية من اجله يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم ويضرب لنا أروع الأمثلة؛ فعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ : " لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا " وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ ، فَقَالَ : " لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ " رواه البخاري) وفى ضبط السلوك والتخلق بأفضل الأخلاق وحسن معاملة الناس تجد وصية النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال له معاذ بن جبل رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ " رواه احمد والترمذي وقال حسن) وفى نصوص السنة النبوية المطهرة، تجد تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على قيم التعاون والتكافل والتماسك والترابط  في غير موضع ومن ذلك ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" رواه مسلم )
ولعلنا في هذه السطور، نذكر شيئا يسيرا، من سمات الشخصية الوطنية، فمن ذلك ثباتها على مبادئها وقيمها، وحرصها على اعتدالها ووسطيتها، وعدم ذوبانها في أفكار أهل التطرف والتشدد والغلو، فلا تستهويها التيارات الخاطئة بفكرها المتطرف، فقد قال صلى الله عليه وسلم " إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ " وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ . قَالَهَا ثَلَاثًا " رواه مسلم ) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ" رواه البخاري) ولا يقف الأمر عند حد الإنسان نفسه فقط بل يمتد ليشمل الأبناء؛ فيعتني بأخلاقهم وسلوكهم وفكرهم وزراعة حب الوطن في قلوبهم ونبذ كل ألوان التطرف والانغلاق والتشدد منذ الصغر، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ "
كذلك من سمات الشخصية الوطنية: الحرص على العمل : فالقوة الاقتصادية ضرورية للتقدم والرقى وهى عماد أول من أعمدة البناء وعامل أول من عوامل القوة ، ولن يقوى الاقتصاد في مجتمع إلا بالعمل والإنتاج ؛ ولذا أمرنا الإسلام أن نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في العمل والإنتاج حتى في أحك الظروف؛ حتى وجهنا الإسلام أن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بيننا وبين القيام بعمل فيه نفع للبلاد والعباد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " الأدب المفرد للبخاري) ولو نظرت في كتاب الله تعالى لوجدت أن الله جل وعلا حث على العمل وطلب الرزق بعد الأمر بالصلاة، ولعل في ذلك إشارة قوية لأهمية ومكانة العمل قال تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الجمعة 10)، فكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ ،رضي الله عنه إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" ، وفى سطور تكتب بماء الذهب، ترى هدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع من جاءه يسأله ؛ إذ دعاه أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، وأن يستنفد ما يملك من حيل وإن ضؤلت؛ فعن أنس: أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم يسألُه، فقال: " أما في بيتك شيءٌ؟" قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: "ائتني بهما"، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: "من يشتري هذين؟" قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: "من يزيدُ على درهمٍ؟" -مرتينِ أو ثلاثاً-، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ: "اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به"، فأتاه به، فشدَّ فيه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: "اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً"، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ" رواه أبو داودَ والترمذيِّ وحسنَّه)
كما أن الصحابة الأخيار كانوا دائما في حرص على العمل واستثمار طاقاتهم ومواهبهم وهذا يظهر جليا في فعل عبد الرحمن بن عوف؛ فلما عرض عليه سعد بن الربيع الأنصاري أن يناصفه ماله وأهله قال له " بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ ". ولم يكن شدة حب الصحابة رضي الله عنهم للعمل يقف عند المداومة عليه بل كان الكسل والخمول سببا لسقوط الرجل من عيونهم، إذ يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا سقط من عيني " وهذا قوله رضي الله عنه عندما دخل المسجد فوجد من يجلس بلا عمل فتوجه له قائلا : لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة  ". إذ أن اليد التي لا تعمل عملا ولا تزاول حرفة ولا تسهم في التعمير والبناء والتقدم هي يد شلاء، وإن العقل الذي لا يسهم في عمل أو اختراع وابتكار وإبداع وتجديد هو عقل أغفل مهمته، وفقد رسالته، وإذا كان العمل من سمات الشخصية الوطنية وهو طريق للتقدم والرقى فان ذلك لن يتحقق إلا بإتقانه، إذ أن إتقان العمل ، من أهم الواجبات العملية التي حث عليها الإسلام، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ " وفي رواية : ( إن الله تعالى يُحب من العامل إذا عمل العمل أن يُحسن " (رواه البيهقي).
كذلك من سمات الشخصية الوطنية: حسن الخلق ؛ وجمال السلوك، فالسلوك الحسنة من شأنها أن تبني مجتمعًا محصنًا لا تنال منه عوامل التردي،  ولله در القائل
إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وحرى بنا في هذا المقام العظيم أن نذكر أن الأخلاق التي نحتاجها لبناء وطننا لا تشمل ترويج الشائعات والأراجيف والأباطيل التي يقصد بها ملء القلوب من الفتن والمصائب، وشحنها بالأحقاد والبغضاء على الوطن ليرى أصحاب هذه الشائعات والافتراءات في المجتمع تفككاً، وتناحرا ،وتشرذما؛ فقد قال تعالى(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النور19) بل إن الواجب مناهضة هذه الشائعات وعدم ترويجها فليكن منهج كل واحد منا عند الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". وليكن منهج كل واحد منا في سمعه قول الله عز وجل(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)الحجرات6)
كذلك من سمات الشخصية الوطنية: التحلي بروح المبادرة إلى الخير، والتكافل المجتمعي بكساء العار، وإطعام الجائع، وإعطاء الفقير، وتفريج الكربات، وكذلك المساهمة في بناء المساجد والمدارس والمستشفيات وغير ذلك مما ينفع الناس فخير الناس انفعهم للناس وعنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا ،وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ - شَهْرًا ".
كذلك من سمات الشخصية الوطنية: الحفاظ على الأموال والأعراض والدماء؛ ولقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة، في كلمات غاية تؤكد على حرمة الأموال والدماء والأعراض، بغض النظر عن اللون والجنس بل والمعتقد فأرسى فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم مبادئ الرحمة ودعائم السلم والسلام، وأظهر لنا جوانب الإنسانية في اسمي المعاني والقيم؛ كما رسخ مبدأ المساواة ؛ إذ  قرر النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته مبدأ المساواة بين البشر، ونبذ العنصرية، والمفاخرات العرقية، فسمع صوته هناك الغني والفقير، والأبيض والأسود ، قال صلى الله عليه وسلم "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى" .
كذلك من سمات الشخصية الوطنية: الوفاء للوطن وخدمته، ويظهر ذلك في احترام أنظمته وقوانينه، وطاعة ولى الأمر؛ فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم" مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي" رواه البخاري) كما يظهر في التشبث بكل ما يؤدي إلى وحدته وقوته، فقد قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) آل عمران103) كما يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله ، وفي المحافظة على أمواله وثرواته، فالمال العام اشد حرمة من المال الخاص وذلك لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له، كما يظهر في نشر الخير والقيم والأخلاق الفاضلة،ونشر روح المحبة والأخوة بين أبنائه، والمشاركة الايجابية في بنائه ،والتنافس في خدمته كل حسب طاقاته وقدراته والمحافظة على أمنه واستقراره، والصد والدفاع عنه، و يكفى القائم بذلك الشرف الذي صرح به المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله" عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
( الدعــــــــــاء )
===== كتبه =====
محمد حســــن داود
إمام وخطيب ومدرس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة بعنوان: "لا يعترف بنعمة الاستقلال من لا يعرف نقمة الاستعمار"

خطبة بعنوان تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال

خطبة الجمعة من صفحة نفحات من المنبر بعنوان التبرع بالدم صدقة جارية