خطبة الجمعة علو الهمة في خدمة الدين والوطن

خطبة الجمعة :-
علو الهمة في خدمة الدين والوطن
" للشيخ / محمد حســـــــن داود "
العناصـــــــــــــــــــــــــــــــــــر
• 1 – علو الهمة من معالي الأمـــــــــــــــــــــــــــــور .
• 2 – دعوة الإســــــــــــــــــــــــــــلام إلى علو الهمة .
• 3 – علو الهمة خلق الأنبياء والصالحيـــــــــــــــــن .
• 4 – مجالات تحتاج إلــــــــــــــــــــــــــى علو الهمة .
• 5 – اثر علو الهمة في إصلاح المجتمــــــــــــــــــع .
• 6 – ضرر ضعف الهمة على الفرد والمجتمـــــــــع .
• 7 – دعوة إلى علو الهمة في خدمة الدين والوطن .
الموضـــــــــــــــــــــــــــوع
الحمد لله رب العالمين ،واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ،واشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى اله و صحبه أجمعين .
• أما بعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
إن من طيب الأخلاق وعظيم الصفات التي دعا إليها الإسلام علو الهمة ؛فالهمة العالية شرف ومقصد، تعلو بالأمم إلى أعالي القمم، وتوصل إلى محاسن الشيم ، يجزى الله بها من صدق فيها وان لم يوفق للعمل  فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ ، فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَمِلَهَا ، فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً ، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا ، فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا " مسلم .
وعن عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً " روه أبو داود
وقد يسبق بها المؤمن إلى عظيم الدرجات ومضاعفة الحسنات  كما بين ذلك خير البريات صلى الله عليه وسلم في قوله " سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ " ، فَقَالَ رَجُلٌ : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَخَذَ مِنْ عُرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ ، فَتَصَدَّقَ بِهَا ، وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلا دِرْهَمَانِ ، فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا ، فَتَصَدَّقَ بِهِ " صحيح ابن حبان.
 ومن ثم كان فوزا للعبد أن يستجيب لدعوة الإسلام لعلو الهمة قال تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران133
وقال تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد21
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : " الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ , خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ , وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ , وَلَا تَعْجِزْ , فَإِنْ غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ , وَإِيَّاكَ وَاللَّوْ , فَإِنَّ اللَّوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " سنن ابن ماجة .
 وعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ : " أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ , فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا , هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ , وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ , وَقَصْرٌ مَشِيدٌ , وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ , وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ , نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ , حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ , وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا , فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ فِي دُارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ " , قَالُوا : نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : " قُولُوا : إِنْ شَاءَ اللَّهُ " , ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ . سنن ابن ماجه
فهل من همم عالية هل من مشمر للجنة ، هل من مسارع إلى الخيرات والدرجات ، هل من مغتنم للأوقات ، هل من متاجر مع الله ، هل من راغب لرحمة الله ، هل من مشمر للنعيم ،هل من مشمر لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في جنة الخلد ؛
مضى أمسك الماضي شهيداً معدلاً * واتبعه يوم عليك شهيـــد
فإن تك بالأمس اقترفت إســـــاءة * فبادر بإحسان وأنت حميد
ولا تبق فعل الصالحات إلى غــــدٍ* لعل غداً يأتي وأنت فقيــــد
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفــــت* حميمك فاعلم أنها ستعــود
لقد أثنَى الله تعالى على أصحاب الهِمَم العالية من الأنبياء والمُرسَلين، فقال تعالى ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾الأحقاف 35.
وقال تعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ )الأنبياء90
كما أثنى على أوليائه الذين كبرت همتهم في مواطن البأس والجلد، والعزيمة والثبات، والقوة في دين الله ، قال تعالى﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾الأحزاب 23.
وذم الله المهازيل الهابطين إلى الأهواء، مفتورى الهمة فاقدي الإرادة ،قال تعالى ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ الأعراف 175/176.
ولأن الكسل والخمول لا يصِحُّ لأهل المُروءات فقد كان من أوائل ما أُمِر به نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾المزمل1/ 2.
فلقد كان – صلى الله عليه وسلم – مثالا أعلى في علو الهمة، فعَنْ عُقْبَةَ ابن الحارث ، قَالَ : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ ، فَقَالَ : " ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ " . البخاري
كما أن علو الهمة في الطاعات والعبادات على اختلاف أشكالها وصية نبوية، وسنة محمدية وجب علينا أن نحرص على أن نكون من أهلها فهي أولى المجالات التي كان فلاحا للعبد إذا قويت همته فيها  ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: " تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً".
فو الله ما أقلت الغبراء و أظلت الخضراء ,أكرم خلقاً , ولا أزكى نفساً , ولا أحرص على هداية الناس من محمد صلى الله عليه وسلم , كان يستغل جميع المواقف ليعظ الناس ويذكرهم بربهم , ولا يرى عاصياً إلا نصحه , ولا مقصراً إلا وجهه , ولا قوى الهمة إلا حثه ليثبت عليها ولا ضعيف الهمة الا ودعاه الى قوتها وعلوها فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" . أخرجه مسلم .
وعند الطبراني في الكبير : فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَعْلَى بِهِ الضَّحِكُ، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا جَمَعَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إِلا مُؤْمِنٌ، وَإِلا دَخَلَ بِهِنَّ الْجَنَّةَ" .
وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حاثا على المبادرة، والمسارعة وعلو الهمة كما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ -أي التبكير- لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا".
ولما سأله رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ مرافقته في الجنة فدله على علو الهمة وقوتها قائلا " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ ، بِكَثْرَةِ السُّجُودِ " وذلك لأن مقامات الناس في الجنة حسن أعمالهم.
ويتضح مقام ذلك جيدا عندما تسمع ما روى عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أبيه ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سَمِعَ خَشْخَشَةً أَمَامَهُ ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : بِلالٌ ، فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ : بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَحْدَثْتُ إِلا تَوَضَّأْتُ ، وَلا تَوَضَّأْتُ إِلا رَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ أُصَلِّيهُمَا ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِهَا " .صحيح ابن حبان
فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى الناس همة وأعلاهم إقداما وأحرصهم على فعل الخير والتسابق إليه والتنافس فيه ، فلقد سادت روح المنافسة في الخيرات بينهم غلبوا الشهوات واطرحوها، وزكوا نفوسهم ورفعوها، فعلت همتهم فى خدمة دينهم و وطنهم
فهذا طلحة الانصارى كما روى عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , يَقُولُ : كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، قَالَ أَنَسٌ : فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ سورة آل عمران آية 92 ، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ سورة آل عمران آية 92 وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا ، وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ , قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ : وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ "البخاري
وهذا ابو الدحداح كما روى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا سورة البقرة آية 245 ، قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ ، قَالَ : أَرِنَا يَدَكَ ، قَالَ : فَنَاوَلَهُ يَدَهُ ، قَالَ : قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي ، وَحَائِطُهُ فِيهِ سِتُّ مِائَةِ نَخْلَةٍ ، فَجَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهَا ، وَعِيَالُهَا ، فَنَادَى ، يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ ، قَالَتْ : لَبَّيْكَ ، فَقَالَ : اخْرُجِي ، فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي " .وفى رواية فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح أخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح! ونقلت منه متاعها وصبيانها) .
ولقد فطن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معنى علو الهمة في الطاعات والقربات إلى رب البريات  فأراد منافسة أبي بكر في الخير،وكانَ أبو بكرٍ سَبَّاقاً أَبَدَا، أَخْرَجَ أبو داودَ في سننه، والترمذيُّ في جامعه عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.
وهذا لا يعنى أن عمر رضي الله عنه لم يكن قوى الهمة سباقا إلى الخير، كلا بل كان للتنافس في نعيم الآخرة أهلا وللمسارعة إلى الخير عنوانا ولعلو الهمة دليلا فقد روى أبو نُعيم في «حلية الأولياء» أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج في سواد الليل فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: أنه يتعاهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة أعثرات عمر تتبع
وهذا عثمان ابن عفان رضوان الله عليه؛ كان عثمان ـ رضي الله عنه ـ تاجراً ثرياً عندما دخل الإسلام؛ فلم يبخل ذات يوم على الإسلام ودولته وفقرائه بما منحه ربه؛ فكان جواداً مبادراً وقتما يشح المال ويعم الفقر ويفقد الرجال أموالهم، فعطاء عثمان بن عفان وجهوده للإسلام سجلها التاريخ، لتظل عنواناً مهما جرى التاريخ ومهما توالت الأيام، ولقد تخلد من هذا العطاء تجهيزه لجيش العسرة، فقد دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين للتبرع والتطوع من أجل الجيش، فأعطى كل مسلم على قدر وسعه، وساهمت النسوة بما لديهن من حلي؛ ليستعين به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إعداد الجيش، ولكن لم يكن كل ما تم جمعه ليجهز جيش الإسلام؛ فنظر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الصفوف، وقال: من يجهز هؤلاء، ويغفر الله له؟ وما كاد عثمان يسمع نداء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا حتى سارع إلى مغفرة من الله ورضوان، فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَضَّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقَالَ: مِائَةَ بَعِيرٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَضَّ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: مِائَتَيْ بَعِيرٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَضَّ الثَّالِثَةَ، فَقَامَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: ثَلاثَ مِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَنْزِلُ عَنِ الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ: "مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا" ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ولم يتوقف عثمان ـ رضي الله عنه ـ عند هذا الحد؛ فقد كان خير معين للفقراء والأيتام والأرامل، وجاهد مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أغلب الغزوات، وهو من كان على يقين أن الله تعالى يزيد من ينفق في سبيله بأضعاف مضاعفة؛ فرفض في تجارته المثل بعشرة أمثال، وقدمها في سبيل الله، وقتما كان التجار يغنيهم ما هو أقل؛ فعن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة براً وطعاماً، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيهما على عاتقه فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا. فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني بكل درهم عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة قال عبد الله بن عباس: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي وهو على برذون أشهب يستعجل؛ وعليه حلة من نور؛ وبيده قضيب من نور؛ وعليه نعلان شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: إني مبادر لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان.”( الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري)

 وهو من اشتري بئر رومة، ووقفها في سبيل الله، فلما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمُدّ. فقال رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((تبيعها بعين في الجنة؟ )) فقال: ليس لي يا رسول الله عين غيرها، لا أستطيع ذلك. فبلغ ذلك عثمان، فاشتراها بخمسة و ثلاثين ألف درهم، ثم أتى نبي الإسلام فقال: أتجعل لي مثل الذي جعلت له عيناً في الجنة إن اشتريتها؟ قال: ((نعم))، قال: قد اشتريتها، وجعلتها للمسلمين. وعن عبد الرحمن السلمي أن عثمان حيث حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم بالله، ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله، ألستم تعلمون أن رسول الله قال: ( من حفر رومة فله الجنة) فحفرتها؟.
وتدبر مقام تلك الهمة والمنافسة بين الأب وابنه اذ يقول الابن لأبيه "لو كان غير الجنة لآثرتك به"، فعنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبَانَ حَدَّثَهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ أَرَادَ سَعْدَ بْنَ خَيْثَمَةَ وَأَبُوهُ جَمِيعًا الْخُرُوجَ مَعَهُ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَهَمَا " ، فَقَالَ خَيْثَمَةُ بْنُ الْحَارِثِ لابْنِهِ سَعْدٍ : إِنَّهُ لا بُدَّ لأَحَدِنَا مِنْ أَنْ يُقِيمَ فَأَقِمْ مَعَ نِسَائِكَ ، فَقَالَ سَعْدٌ : لَوْ كَانَ غَيْرُ الْجَنَّةِ لآثَرْتُكَ بِهِ أَنِّي أَرْجُو الشَّهَادَةَ فِي وَجْهِي هَذَا ، فَاسْتَهَمَا فَخَرَجَ سَهْمُ سَعْدٍ فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ ، فَقَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِوَدٍّ .
وفى غزوة بدر ، :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ " ، فيَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : بَخٍ بَخٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ؟ ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا ، قَالَ : " فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا " ، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ، ثُمَّ قَالَ : لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ ، قَالَ : فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ . مسلم
فطاعة الله عز وجل والمنافسة والمسابقة إلى الخيرات هي أولى المجالات التي ينبغي على العبد أن تعلو فيها همته وان يقوى فيها إرادته اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فعن الْمُغِيرَةَ ، يَقُولُ : " قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ لَهُ : غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ : " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا " .  البخاري
وأيضا من المجالات التي نحتاج إلى علو الهمة فيها  :العلم؛
 فالعلم هو الماء والهواء للإنسان وهو أصل كل شيء، يحرر العقول من القيود، يحرر العقول من الأوهام، به التخطيط والتدبر وطرق أبواب الأساليب ، يدير عجلة النهضة، يقضي على الكساد والفساد،فنهضة الأمة تتحقق من ارتقاء كل فرد فيها بعلمه إلى مستوى محمود. أما إذا ساد في مجتمع جهل ، فلا ينتج عنه إلا أمة مشردة مفككة تتسول سبل معيشتها من بقية الأمم الأخرى والناظر إلى الواقع يجد خير دليل فالأمم التي تعتمد العلم سبيلا صارت فى المقدمة ، من هنا كان حث الإسلام للشباب على تعلم كل العلوم على اختلاف التخصصات بهمة عالية ولنا في زيد ابن ثابت عبرة ؛فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ ، قَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ ، قَالَ : فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ ، حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ ، قَالَ : فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ " جامع الترمذي
وأيضا من المجالات التي نحتاج إلى علو الهمة فيها العمل وعمارة الأرض فلقد عني الإسلام بعمارة الأرض ورعاية الكون عناية خاصة وأولاها اهتماما مشهودا، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون وهيأ فيه الظروف المثلى للحياة السعيدة المستقرة، ثم استخلف فيه الإنسان ليقوم بإعماره على الوجه الأكمل الذي يحقق به مرضاة ربه وخدمة بني جنسه وخدمة الكون من حوله؛ قال تعالى (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) هود 61
قال ابن كثير في التفسير: أي جعلكم عماراً تعمرونها وتستغلونها.
فالله ذلل لنا الأرض بما فيها، وأمرنا أن نسير في أرجائها وان نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في إعمارها حتى في أحلك الظروف، وحتى في أخر اللحظات من الحياة حتى ارشد أن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بيننا وبين القيام بعمل منتج، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " . الأدب المفرد للبخاري
إذ يعد إعمار الكون من المهام الأساسية للإنسان الخليفة في الأرض، ولضرورته القصوى للحياة الإنسانية كان الإعمار مظهرا من مظاهر تحقيق العبودية لله تعالى، واتسع مفهوم العبادة لا ليقتصر على أداء شعائر تعبدية معينة، بل تجاوز ذلك إلى كل فعل مادي أو معنوي من شأنه أن ينهض بالإنسانية، ويبعثها على تحقيق الرقي والنهضة في المجالات كلها ،وإذا أردت أن تعرف مقام ذلك فتدبر جيدا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ". البخاري
ومن ثم يظهر جليا أن الإسلام اهتم اهتماما بالغا بكل ما كان من أثره تقدم الأمة، وعلو شأنها ورفعتها، و كانت نظرته إلى العمل نظرة توقير وتمجيد ، فرفع قدره وقيمته ،إذ انه سبيل للرقي والتقدم،والإصلاح، حتى جعل الإسلام من يسعى على كسب معاشه ،ورزق أولاده من حلال في درجة الشهيد أو المرابط في سبيل الله، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ!! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): "إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ".المعجم الكبير للطبراني.
ويكفى ما كان من عبد الرحمن ابن عوف دليلا قويا على همة الصحابة في الكسب وعمارة الأرض وخدمة دينهم ووطنهم
فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : " قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ , فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ , فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ , فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ " ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالَ : " فَمَا سُقْتَ فِيهَا ؟ " فَقَالَ : وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ " . البخاري.
إن الهمم العالية هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب البر؛ فمن تحلى بها لان له كل صعب، واستطاع أن ينبش ولوفى الصخور للوصل إلى كل رقى وتقدم ،يقول الشاعر:
همم الأحرار تحيي الرمم * نفخة الأبرار تحيي الأمم
فالنجاح والتقدم والرقى مرتبط بعلو همم الشعوب وقوتها
والناظر في حال الأمم يجد أنه ما من أمة ترقت في مراتب المجد وسطرت اسمها على صفحات التاريخ إلا كان وراء ذلك عمل كبير وتضحيات جسام، وبذل للجهد في كل الميادين كما أن الهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل ومواضع التهم وتنأى به عن التلطخ بالرذائل وتحثه على اكتساب المكارم والفضائل كما أن علو الهمة وقوة الإرادة من أهم عوامل إصلاح المجتمعات فهذا سيدنا إبراهيم -عليه السلام- واجه قومه وأنكر عليهم عبادة الأوثان، بل وكسرها وهو شاب واحد ولكن كان ذا همة وإرادة ألاف الشباب قال تعالى  (قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرهِيمُ) الأنبياء60.
وذو القرنين الذي كان من جنود الإسلام ، جاب الأرض لا يمر على أمة من الأمم إلا دعاهم بدعوة الحق .قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً *فَأَتْبَعَ سَبَباً)الكهف 83-84-85
ولما ورد على القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً ، لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس ، وإخلادهم إلى الكسل ،وتعطيل الفكر ،وتبديد الطاقة ،فصاروا ضعفاء مساكين لا حول لهم ولا قوة اشتكوا إليه من ظلم يأجوج ومأجوج ،وإغارتهم عليهم وإفسادهم أموالهم و زروعهم ومواشيهم وأنفسهم فماذا قالوا : (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94)
اى اكفنا شرهم يا ذا القرنين ونحن نعطيك الأجر ، ولكن المسلم الذي يندفع بروح الإسلام وقوة الإيمان والإخلاص لله سبحانه وتعالى لا ينتظر الأجر ،لا يأخذ أجرة إنما ينتظر الأجر من الله سبحانه وتعالى . قال ما مكني فيه ربي خير ما أعطاني الله من الإسلام والقوة خير مما ستعطونني ،(حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)
لقد كان هؤلاء في أمس الحاجة إلى همة عالية تدعوهم وتحثهم على قوة الإرادة والرقى بهممهم، قال تعالى ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (الكهف:95-96)
ومن ثم فان علو الهمة لا يقف في جانب من جوانب الحياة بل يتسع ليشمل كل جوانب الحياة
إن دينًنا لا يقبلُ من أتباعه الكسلَ والخُمولَ والعجزَ والسكونَ والاستِرخاءَ، وضعفَ الهمَّة والفتور، قال تعالى ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 7، 8].
إذ أن ضعف الهمة تفوت على الفرد مصالح عليا، وتفسد عليه حياته، ولذلك يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:( لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته)
ويقول المتنبي:
وَلَمْ أَرَ فِيْ عِيُوْبِ النَّاسِ عَيْبَاً * كَنَقْصِ الْقَادِرِيْنَ عَلى الْتَّمَام
كما أن ضعف الهمة يترتب عليه آثار سلبية فهو كارثة للأمة وهو سبب ضياع قوتها وتفريق كلمتها وتمزيق وحدتها وتداعى الأمم عليها ونهب خيراتها وهو الأمر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فعَنْ ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ " . رواه أبو داود
إن اللبيب العاقل يسارع ويبادر قبل العوائق والعوارض، فنافس ما دمت في فسحة ونفس، فالصحة يفجؤها السقم، والقوة يعتريها الوهن، والشباب يعقبه الهرم. فقد قال صلى الله عليه وسلم
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ"،
وقال أيضا " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابُكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتُكَ قَبْلَ سِقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغُكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتُكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "
فخذوا من شبابكم لهرمكم ،و من صحتكم لمرضكم ،ومن غناكم لفقركم ،ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم .
بَادِرْ بِخَيْرٍ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرَا * فَلَيْسَ في كُلِّ وَقْتٍ أَنْتَ مُقْتَدِرُ
فالمؤمن الصادق الحريص على دخول الجنة ، لا يكون إلا ذا همة عالية ، لا يعرف العجز ولا يألف الكسل ، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَل فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ "  .
قال أحد الصالحين : همتك فأحفظها ، فإن الهمة مقدمة الأشياء ، فمن صلحت له همته وصدق فيها ، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال .

===========
========
======

رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ،رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ،رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ،وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا ،وَارْحَمْنَا،
اللهم اجعل مصرنا بلدا آمنا ،مطمئنا ، اللهم من أرادها بخير فوفقه إلى كل خير ، ومن أرادها بسوء فأجعل كيده فى نحره .
والحمد لله رب العالمين ،وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
==========
• كتبـــه
محمد حســــــن داود
إمام وخطيب ومدرس
دسـوق – كفـر الشيـخ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة بعنوان: "لا يعترف بنعمة الاستقلال من لا يعرف نقمة الاستعمار"

خطبة بعنوان تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال

خطبة الجمعة من صفحة نفحات من المنبر بعنوان التبرع بالدم صدقة جارية